نوزاد حسن
كنت دائماً أتساءل عن معنى أنْ يكون الإنسان حاملاً لهوية وطن ينتمي إليه؟ أو بمعنى أدق ما معنى أنْ أكون عراقي الانتماء لهذه البقعة التي أعيش عليها؟, وفيها تاريخٌ متنوعٌ تربيت عليه كما تربى عليه غيري.
أظن أنَّ الإجابة عن هذا السؤال ليست شيئاً سهلاً، فالقضية تتعلق بتعريف غامض لمفردة الوطن, والأهم علاقتي بهذا الوطن, وكيف أكون متشبعاً بعاطفة دافئة أحملها معي كما أحمل هويتي الورقيَّة التي تعرف الناس بي.
إذنْ مفردة الوطن لا تخضع لتعريف لغوي نفهمه حين نقرأه، أنا أتحدث الآن عن تلك اللحظة التي يجد الإنسان نفسه فيها مواجهاً وطنه وجهاً لوجه وكأنه يقف في حضور كيان لا حدود له مليء بسحر لا حدَّ لغموضه.
يشبه العراق غموض غابة أضاعت عشرات الجيوش في متاهاتها ونجت من عبثهم، لذا أنا أجد أنَّ أي فاسد يعبث بالمال العام هو مجرد شخص يريد أنْ يعبث بالغابة وخصوصيتها الرائعة.
من يستطيع بعد كل ما قلت أنْ يقول لي ما معنى أنْ يحب الإنسان وطنه حباً نقياً بلا مصلحة، ومن المعروف انَّ عشق فتاة ما أو فيلم سينمائي أو رواية من الروايات لا يعكس ذرة صغيرة من عشق الإنسان لوطنه، فهل هناك تعريف موجز لحبي لوطني؟ كيف أوصل رسالتي الشخصيَّة الى من يقرأني ليعرف ما أقصده عن معنى كلمة الوطنية حين نقول إنَّ فلاناً وطني مئة بالمئة.
أحاول الاستفادة من لحظة تعبير بسيطة قالها لي ابني الصغير، صباحاً بعد أنْ صحا من نومه قال لي: بابا حلمت بك، قلت ماذا رأيت في حلمك، قال حلمت بأني أحبك، في الحقيقة صدمتني هذه الجملة، إذ هل يمكن أنْ يكون الحب ذاته مادة
حلميَّة.
بلا شك لم يكن ابني يعرف عن أي شيء يتحدث، لكنَّ الحب الذي يكون موضوعاً للحلم هو حالة غريبة، فمن الطبيعي أنْ يرى الإنسان حلماً فيه حادثٌ وتفاصيل بسيطة، يحلم الإنسان مثلاً أنه يمشي في شارع, ويشتري قميصاً، هذه هي مادة أي حلم، لكنْ أنْ يكون الحلم بلا تفاصيل ولا حادثة ولا بشر، فهذا هو ما يجب أنْ نتوقف عنه، في حالة ابني حدث شيء ملفت للانتباه، فالحب صار مادة للحلم، الحب كله كشعور صار هو موضوع الحلم، وعلى هذا الأساس سيكون الإنسان في حضرة جلال الحب مباشرة.
أنْ يحب الإنسان وطنه يجد نفسه في وضع مماثل، تظل غابة الوطن مصانة, ولا بدَّ من المحافظة عليها، وعند أي محاولة عابثة تريد انتهاك حرمة هذا الكيان الذي نعشقه فإنَّ القلوب لا تطيق إيذاء ولو غصن صغير في شجرة من أشجاره. ولعلَّ كره الفاسدين والإصرار على معاقبتهم أمام القضاء ينبعُ من هذا العشق الوطني
ليس إلا.
يبعدنا حب الوطن عن كل ما هو طائفي أو قومي أو مذهبي، الوطن حد أكبر من هذه الأسيجة الشكليَّة؛ وأعني بها سياج القوميَّة أو الطائفيَّة. الغابة لا تعترف إلا بالحب الصرف الخالي من أية رغبة أو غش أو فساد يقتل عاطفتنا الرائعة التي تلتقي بكيان الوطن لقاءً
مباشراً.