د. عبد الواحد مشعل
أضحى تأثير العولمة يطال كل شيء في المجتمعات المختلفة، ولا سيما مجتمعات العالم الثالث التي بدأت متأثرة بها، حتى طال نسيجها الاجتماعي شيئاً من التفكك والتحلل والانقسام، فلم تعد الحواجز التي تضعها النظم السياسيَّة أمام مواطنيها نافعة، فوسائل الاتصال إي الإعلام الجديد بات يدخل كل بيت، بل إنها أصبحت بحوزة كل فرد بكامل خصوصياتها.
ولعلَّ أخطر ظاهرة تعرض لها كثيرٌ من المجتمعات النامية هي الهجرة تجاه العالم المتقدم بعد أنْ أصبحت بيئاتها مليئة بالحروب والنزاعات والفقر والتهميش والاضطهاد، فأصاب بنيانها الاجتماعي الوهن والضعف فكانت الهجرة كظاهرة اجتماعية واقتصادية وسياسية تؤثر في النسيج الاجتماعي المحلي وفي هوية المهاجرين وانتمائهم في بلاد
الشتات.
حقبة ما بعد
الحرب العالمية الثانية
تعدُّ الحقبة التي أعقبت الحرب العالمية الأولى من أكثر الحقب التاريخية إثارة لجذب المهاجرين من منطقة الشرق الأوسط الى أوروبا وأميركا، وقد كان كثيرٌ من المهاجرين يتميزون بالكفاءة والوعي الاجتماعي ومن الذين ضاقت بهم الأرض بما رحبت من مضايقات النظم القوميَّة الأحاديَّة أو ذات الطوق الأيديولوجي الشمولي الذي خيَّم على كثير من المجتمعات في المنطقة العربية التي حاولت تطويع الإنسان في بوتقتها قلباً وقالباً، وقد كانت الهجرة آنذاك محفوفة بالكثير من المتاعب والمخاطر والخوف، وقد شكلت تلك الموجات من الهجرات جاليات مميزة في بلدان الجذب، ولا سيما في الولايات المتحدة وفرنسا وانكلترا، حتى تمكن بعضهم من الاندماج في ثقافة تلك المجتمعات وتشربوا ثقافتها، لا سيما في أجيالها اللاحقة.
جاليات الشتات
إنَّ تك الهجرات مثلت أنموذجاً حضارياً مميزاً حينما تمكن كثيرٌ من المهاجرين من صياغة حياتهم على وفق إمكانياتهم العلميَّة والاقتصاديَّة وشكلوا جاليات في بلاد الشتات. وفي العراق كانت طلائع تلك الهجرات إبان فترة الستينيات، لا سيما من أسر الطبقة الوسطى وأصحاب الملكية الخاصة حينما وجدوا أنفسهم مهددين بسبب أولاً، الاختلاف الأيديولوجي الذي أغلبه ليبرالي أو محافظ، بينما كانت تطرح على الساحة العراقية آنذاك أفكارٌ اشتراكية وأيديولوجيات شموليَّة تتبناها الدولة أو بسبب تهديد ممتلكاتهم من مصانع بالتأميم من قبل السلطات، إذ لم يعد لهم مكانٌ في الخريطة السياسيَّة والاقتصادية والثقافيَّة، وقد انعكس هذا على واقع المجتمع العراقي في المراحل اللاحقة، حينما تقلصت وانحصرت مساحة الطبقة الوسطى في المجتمع، إذ لم تعد هناك طبقة وسطى ولودة تشكل مكاناً مميزاً في السلم الاجتماعي العراقي يقود الى الحضرية وقيمها، وطغت على الساحة الحضرية في المدن الثقافة الريفيَّة والتي جاءت منها الطبقة السياسيَّة الحاكمة بعد العام 1958 وحتى المرحلة الحالية، وهي ما زالت تتحكم في الدولة وتسيرها على وفق ثقافتها إلا من استثناءات قليلة جداً لم تترك تأثيراً بيناً في الساحتين السياسيَّة
والثقافيَّة.
اتجاهات الهجرة
أما في المرحلة الحالية فقد تعددت اتجاهات الهجرة وأسبابها واتسع نطاقها بشكل بات يهدد النسيج المجتمعي العراقي بسبب النزاعات الطائفية والحزبية والعرقية والحروب المدمرة، وقد كان للعولمة تأثيرها الواضح في كل ذلك، عندما أرادت أنْ تجعل العالم يخضع لنظام عالمي واحد، كما روج لذلك فرنسيس فوكياما عام 1990 ثم أعقبه هنتغتون في الترويج لصراع قادم بين الثقافات، والذي اسماه (صدام الحضارات) وهي في مضمونها تدعو الى تفكك الدولة القومية وإشاعة لنظام العولمة بأنطقتها الاقتصادية والسياسية والثقافية، ولعل اخطر ما في العولمة هي أنها في الوقت الذي تدعو فيه الى ثقافة عالمية واحدة، أذكت حقوق الأقليات تحت دعوات حقوق الإنسان والديمقراطية وغيرها، ما نتج عنه من صراعات محلية مدمرة أربكت النسيج المجتمعي، وهددت أمن الإنسان في النواحي كافة، ما حدا بكثير من الناس، ولاسيما الشباب الى الهجرة وبموجات كثيرة الى العالم المتقدم، وقد ازدادت وتيرتها مع دعوة الأمم المتحدة الى اللجوء الإنساني
سنة 1994.
مخاطرة هجرة العراقيين
شهد العراق بعد 2003 صراعات محلية مريرة منها، طائفية وعرقية وعشائرية أدت الى ظهور موجات واسعة من الهجرة بعضها الى دول جوار العراق مثل الأردن وسوريا وآخرون الى مصر والخليج العربي، حتى إذا ما حلت سنة 2010 واجتياح عصابات (داعش) الإرهابية مدناً رئيسة في غرب العراق مثل الموصل والانبار وصلاح الدين وأجزاء من محافظة كركوك، حتى اتخذت الهجرة مساراً خطيراً، إذ اندفعت جموعٌ غفيرة من الشباب تجاه تركيا ومن ثم عبر قوارب الموت تجاه أوروبا وقد كانت هذه المرحلة من أشد المراحل إيلاماً واضطراباً وقلقاً، لما تركته من آثار خطيرة على النسيج المجتمعي العراقي، إذ غادر العراق الآلاف من الكفاءات العلمية والفنية، سواء على شكل أفراد أو على شكل أسر بأكملها، وقد كان لذلك آثار نفسية واجتماعية خطيرة على المهاجرين أنفسهم سواء في بلاد المهجر وعلى أقربائهم وجذورهم في بلدهم الأصلي.
نداء لعودة الكفاءات
تمر الدولة العراقية في المرحلة الحالية بظروف صعبة للغاية، لا سيما في ما يتعلق ببنائها معرفياً واقتصادياً، ما يتطلب من الدولة التفكير بآليات جديدة لاستقطاب الكفاءات العلمية المنتشرة في أرجاء المعمورة والتي يشار إليها بالبنان، وأنْ تضع الدولة في اعتبارها الاستفادة من دروس مستقاة من التظاهرات الشعبية الحالية.
وتطرح على نفسها جملة من التساؤلات منها ما الذي حدا بالشباب بالمطالبة بالحقوق واسترداد وطن ومحاربة الفساد وبناء دولة عادلة ديمقراطية قائمة على الكفاءات وتأخذ دورها في عالم يتقدم في كل لحظة مسافات من التقدم الاجتماعي والتكنولوجيا؟ ولتكن الإجابة إذنْ ليس أمام الدولة سوى القيام بتنمية بشريَّة نظيفة تسخر فيها إمكانيات العراق البشرية والطبيعية والعقول المفكرة والمخططة، فبهذا الطريق وحده يمكن معالجة المشكلات المتفاقمة اليوم وليس بحلول آنية قد تكون سبباً في تعقيد المشكلات في المستقبل القريب، فالعالم المتقدم اليوم يبحث عن طاقة نظيفة بديلة، وعند الوصول إليها وتسويقها عالمياً عندئذ لا يصبح للنفط قيمة، وعليه ينبغي علينا الانتقال من الاقتصاد الريعي الى الاقتصاد المنتج فوراً، وهذا لا يتم إلا بتوفر إرادة سياسيَّة صادقة وقويَّة في تحقيق التنمية وبأسرع وقت ممكن ففيها تكمن حلول أزمات
العراق.