العراقيون وهاجس العدالة

آراء 2019/12/11
...

د. قيس العزاوي
 
 انتظمت المجتمعات البشرية وقامت الدول في ارجاء المعمورة كافة على دعامتين هما القانون والقوة.. القانون كشرائع تضمن تعايش مختلف أطياف الاجتماع البشري وفقاً لمعايير تشريعية محددة، والقوة الهادفة الى فرض احترام قانون التعايش الاجتماعي وكفالة استمراره.. هكذا قامت الدولة باعتبارها الناظم المشترك لعمل القوى المتآلفة في السلطة، ولأنها في نهاية المطاف القوة التي تمثل حصيلة اختيارات الجماعة الوطنية التي تحتكر لوحدها السلاح وادوات القمع فضلاً عن وسائل الثواب 
و العقاب  .
 
 لقد تفاوتت انظمة الدول في مختلف انحاء العالم ما بين فرض قانون القوة، وما بين بسط عدالة قوة القانون على الجميع . وقد لوحظ انه عندما تفقد الدولة قوتها لفرض قوة القانون تسود ارادة القوة الغاشمة التي تنشر الخوف والقمع والنفاق الذي ينتج بدوره الفساد وينشره في كل صوب. وقد مرت على العراقيين، بدرجات متفاوتة، في العهود الملكية و الجمهورية مراحل سادت خلالها، الى حد ما، قوة القانون كما ساد في مراحل اخرى قانون القوة، على الرغم من أن المادة الثانية في فقرتها الرابعة من ميثاق الأمم المتحدة تمنع استخدام القوة أو التهديد باستخدامها .
     لقد عرف عراقنا الحبيب منذ تألق فجر حضارته قوانين وشرائع اعتبرت من اقدم النصوص القانونية في العالم، فقد سن العراقيون القدامى عدداً كبيراً من القوانين على مر الزمان  ومن بينها : قانون الملك السومري  أور ـ نمو الصادر في مدينة (نفرّ) بمحافظة القادسية عام (2050 ق. م) ، ثم قانون لبت عشتار الذي سبق قوانين حمورابي بقرنين من الزمان ، ثم قانون مملكة آشنونا الذي سبق هو الاخر قانون حمورابي بنصف قرن وضعه الملك بلالاما عام 1992 ق.م، وبعد ذلك جاء الملك حمورابي سادس ملوك بابل (حكم من سنة 1792 ق.م إلى سنة 1750 ق.م) فاصدر قانونه الذي حمل اسمه حمورابي المكون من (282 مادة) واعتبره فقهاء القانون المعاصرون اول مدونة وضعية للقانون الجنائي، واول وثيقة قانونية مهمة، عرف فيما بعد بلوائح حقوق الانسان والحريات 
الاساسية.
     كتب الملك حمورابي على مسلته كل مواد قانونه، وفيه يعلم الناس أجمعين ان الاله (مردوخ) امره بكتابة القانون الذي يهدف الى ارشاد الناس كافة لكي لا يضلوا
 الطريق ولا يظلموا أحد . ومن اجل ذلك كتب يحدد اهداف قانونه بقوله : لادارة البلاد وضعتُ القانون ودستور العدالة .. 
بلسان البلاد، لتحقيق خير البشر: ولكي لا يضطهد القوي الضعيف، ولكي ترعى العدالة اليتيم والأرملة .. لأحكم البلاد بالعدالة". وكما نرى فإن هاجس العدالة ورد المظالم وتنظيم شؤون الحياة بأسرها
 وقتذاك كانت اهدافا مركزية لهذا القانون .
في بلاد ما بين النهرين التي تمتد حضارتها لاكثر من سبعة آلاف سنة قبل الميلاد ، البلاد التي اكتشفت فيها أول كتابة عرفتها البشرية وهي الكتابة المسمارية،
وصاغ رجالها ومفكروها اعرق الملاحم البشرية ( ملحمة جلجامش) بحثاً عن سر الخلود، في هذه البلاد المحتدمة أطرافها والتي حرر الفقهاء فيها اقدم الشرائع والقوانين التي تضمنت العديد من الوثائق التي تتحدث عن المساواة وضمانات العيش الكريم لجميع السكان قبل
 ان تطرح الحضارات الكونية اللاحقة المبادئ التي اعتمدتها المجموعة الدولية لحقوق الانسان، في عراقنا
 اليوم يقف احفاد حمورابي حيارى امام خياراتهم السياسية وأولويات مهماتهم
 الاصلاحية .
ففي قديم الزمان انطلق حاكم لكش ( اي الشطرة  قرب الناصرية) المصلح السومري الكبير أوركاجينا (القرن 24 ق.م) انطلق لكي يقدم لنا أكثر ابداعات العراقيين القانونية في ميدان احقاق الحقوق من خلال محاولة تثبيت أسس العدالة في حياة وفكر السومريين للحفاظ على كرامة الانسان وضمان 
حريته.
 لقد تمثلت فكرة اوركاجينا عن العدالة المنشودة في هذه القوانين بمحاولتها تضييق الفجوة ما بين الاثرياء والفقراء وتأمين الحياة الكريمة لمحدودي الدخل وتوفير البنية القانونية التي تساعد على إزالة كل اشكال الاستغلال والظلم الذي يمارسه الاثرياء ورجال الدين( رجال المعبد) على الفقراء والمعدمين.
تلك هي فلسفات صاغها حكماء الفكر السومري في عصور فتوتهم الحضارية، صاغوها بوثائق وشرائع وقوانين خلدتهم أبد الدهر.. حتى اننا نفخر اليوم بكوننا ورثة هذا الفكر وتلك الحضارة، منها نستمد العزم وبها نتجاوز
 المحن . 
وما نعيشه اليوم من توترات واحتدامات ان هي الا امتحان جديد لاختبار قوة أصالتنا وجدارتنا لمواصلة مسيرتنا بكل ما تتيحه قدراتنا الحضارية من قوة لفرض قانون تعايشنا المبدع وتنوع ثقافتنا الوطنية .
صحيح أن الاحتلال بكل صيغه واشكاله وادواته ورجاله، شرقياً كان أم غربياً، عبث في شؤون وطننا وانتقص من سيادتنا، وأساء الى تراثنا وسرق أثارنا،  
وأدمى شعبنا وشوه حاضرنا وحرمنا من نعمة التمتع بذخائرنا الحضارية. وبفعل ما اشاعه هو وبعض دول الجوار من فتن ودسائس وفرقة وفساد في كل اركان عراقنا وعلى مختلف الطبقات الاجتماعية، بفعل ذاك صادر وسرق نعمات ثرواتنا ، واستثمرها لتمزيق وحدتنا الوطنية. 
    صحيح كل ما سبق ذكره ولكن الاكثر صحة أيضاً إننا في هذه المسيرة السياسية الدامية التي خاضها شعبنا بشجاعة واباء لم نستسلم لليأس، فقد وجدنا ان الاحتلال الذي جرح كرامتنا الوطنية برجاله الفاسدين بعث فينا نعمة التآخي وجعلنا نضاعف امكانات التحدي وننشر الوعي بين فئات الشعب كافة متجاوزين حدود الطوائف والاديان والقوميات مؤمنين بقدرتنا على احداث التغييرمن اجل مستقبل ستبنيه الارادة الوطنية والمواطنية وسيتمثل في استيعاب الدروس 
الماضية .