محمد شريف أبو ميسم
لا أعرف للوطن تعريفا مجرّدا من العاطفة، سوى أنّه محل الإنسان، واصطلاحا هو البلد الذي تسكنه أمة يشعر أفرادها بالانتماء إليه والارتباط بتاريخه وأرضه، ولكن في معرض التنظير هو البيئة الحاضنة الآمنة التي تمنح الأفراد والجماعات هوية مستقلة عن سواهم ويرتبطون بها ارتباطا عاطفيا يتجلى في أسمى معانيه بالتضحية.
والتنظير هنا مرتبط بالمنظومة الحسية، استنادا الى علاقة الانسان بالموجودات الكونية التي تميل دوما باتجاه العاطفة، والعاطفة تتبلور من جغرافية الطفولة مرورا بتاريخ الصبا، اذ تتماها المنظومة الحسية "البصرية والسمعية وحواس الشم واللمس والتذوق" مع المكان. فصورة الوطن كما عرفتها في ذلك الزقاق الذي احتضن لهونا وضحكاتنا هي دوما الأجمل من كل الصور، وغناء الأطفال على العربة التي يجرها الحصان الهرم في ايام العيد لا تنافس عذوبتها الا أغاني داخل حسن ويوسف عمر، ورائحة شارع الرشيد ومقهى الشاهبندر وخبز التنور لا تعلوها روائح شارع الاستقلال في اسطنبول، ولا خبز الخلايلة في القاهرة ولا حتى "كافيهات" جونيا البيروتية، كل ذلك أتوّجه بعشقي الأبدي لرائحة المكان وملمسه، وبكرامتي التي لا أتنازل عنها لأي أجنبي، مؤتزرا بعزوتي من قومي، وأقول أجنبي فقد أنحني لابن بلدي ليرتقي على ظهري ويرفع راية الوطن. وعلى هذا أتساءل "أي وطن نريد؟" ازاء اصرار وتضحيات الشباب المطالبين بوطن. نعم فقد عشنا مرحلة تأسيس لأنموذج دولة سيديرها اقتصاد سوق رأسمالي فيما بعد، هذه هي الحكاية، وحتى لا تذهب التضحيات لصالح رساميل العولمة وتكون مطالبنا جسرا لعبور الليبراليين الجدد على انتفاضة الشعب، ينبغي أن نعي ان هدف التمهيد لنظام ليبرالية السوق، هو اطلاق العنان لسلطة رأس المال في ادارة شؤون الحياة، باتجاه مشروع القطب الواحد انطلاقا من الشرق الأوسط، فبعد عقد ونصف من الفساد والفشل السياسي وتقطيع الأوصال وتكبيل المستقبل بالمديونيّة وضياع فرص التنمية وهدر الثروات، تحت مظلة النظام الليبرالي الذي جوبه برفض شديد في دول الرفاه الأوروبي القائمة على نظام اقتصاد السوق الاجتماعي، لأنّه نظام "بحسب المعترضين عليه في دول الرفاه الأوروبي" يعيد انتاج العبودية بشكل حداثي متسترا بحرية رأس المال والملكية المطلقة للمال العام وبالمسؤولية غير الملزمة. ومن هنا ينبغي أن نحسن المطالبة بوطن قائم على نظام اقتصاد السوق الاجتماعي الذي يحد من تغوّل الرساميل على حساب الانسان وحقه في العيش الكريم، وهذا النظام الذي اعتمدته دول أوروبا الغربية بعد الحرب العالمية الثانية، هو الذي صنع لهم دولة الرفاه، من خلال شراكة الدولة مع القطاع الخاص.
إنّ ما عانيناه ونعانيه جراء صدمة التحول من النظام الشمولي الى النظام الديموقراطي تحت وصاية الجهات الدولية، ينبغي أن لا يكون مدعاة للقبول بهيمنة رساميل العولمة على شؤون بلادنا بدعوى الحاجة للاستثمار الأجنبي دون ضوابط.