علي حسن الفوّاز
اللحظة العراقية العاصفة تحتاج الى مقاربة موضوعية، والى رؤية واضحة لمعرفة ماتحمله من خفايا، وما تتطلبه من استحقاقات. هذا الأمر ليس توصيفيا، ولا تعويما أو تجريدا، بل هو شرط الحاجة للمواجهة، ولتقليل المخاطر والخسارات، فضلا عن كونه عتبة للمعرفة، ولقطع الطريق على "مشعلي الحرائق" من أن يحرقوا تلك "اللحظة" ومابعدها، ويضعوا احلام الناس واحتجاجاتهم في مهب "الصراع الأهلي" أو لعبة العنف والعنف المضاد.هذه اللحظة مدعاة للمراجعة الاجرائية.
ومن منطلق البحث عن حلول واقعية لاشكالياتها، وعن ايجاد أفق سياسي للتعاطي مع واقعية التظاهرات السلمية ومع المطالب المشروعة فيها من جانب، ولحماية النظام السياسي والسلم المجتمعي من التصدّع من جانب آخر. وهي قضايا يجب أن لاتغيب عن بال الجماعات السياسية في مؤسسات الدولة أو في الشارع، لأنّها مسؤولة عن أية تداعيات قد يتعرض لها الاجتماع العراقي، ولا عن أيّ تدخل اجنبي قد يحدث، أو لكلّ ما يقوّض بنية الدولة ومصالح الناس وطبيعة العلاقات السياسية والدبلوماسية مع هذه الدولة أو تلك..
رهان البعض على استشراء الطابع العنفي لن يكون عقلانيا، لأنّ الرهان الآخر سيكون ضدا نوعيا وفاعلا في مواجهة ذلك العنف، وفي الذهاب لتسييس الصراع الاهلي لصالح اجندات اقليمية أو دولية، أو حتى لحساب اصطفافات داخلية جديد، إذ أنّ رهان العنف - مهما كان مستواه وخياره- يعني فتح الباب على الجحيم، وعلى عودة الجماعات الارهابية، أو الى فتح الابواب للتدخل الخارجي، كما أن تباطؤ الاجراءات الرسمية في التعاطي مع ما يطرحه الجمهور التظاهري هو الآخر سيكون رهانا محفوفا بالخطر، وبتصعيد الحراك الشعبي، وبتوسيع سقوف المطالب، والذي يعني وضع عقبات جديدة أمام اية حلول واقعية وعقلانية وموضوعية لاستحقاقات اعادة النظر بالعملية السياسية، والتي تعاني من الفشل والعجز منذ ستة عشر عاما....
المرجعية الدينية والخيارات العاقلة
رغم غلبة الطابع السياسي الحقوقي للحراك الشعبي، إلّا أن حضور المرجعية الدينية في النجف الاشرف له فاعليته الاستثنائية في تبني الخيارات العاقلة، وفي تأشير مكامن الخلل في البنية السياسية، وفي ادارة ملفاتها الاقتصادية والامنية والاجتماعية، فضلا عن توجيه الجمهور التظاهري بضرورة الحفاظ على السلمية، وعلى أطر السلم الأهلي، لأنّ الخروج عن هذه الضرورات يعني الذهاب الى المجهول، والى اخطار من الصعب السيطرة عليها..
إنّ دور المرجعية الدينية لايتقاطع مع الدور المؤسسي لجهات الدولة الأخرى، بقدر ما يُغنيه ويُعزز من مساره، وليكون هاديا للجميع، وداعما للممارسة الوطنية، ولخيارات المنطق والعقل والرُشد، وهي معطيات يمكن أن تُفعّل كل الادوار الأخرى، وتُحفّز الجميع على التواصل من اجل مواجهة الاخطار المشتركة، والتي تخصّ الارهاب والتكفير، وتخصّ مواجهة استحقاقات بناء الدولة، وتحقيق مطالب الشعب، وعلى المستويات كافة، وهو ما حرصت المرجعية على تأشيره في خطبها دائما، في سياق الحاجة الى بناء "دولة حقيقية" معززة بدعامات ناجحة في التنمية والحقوق والتشريع والسياسة، أو في سياق حماية الاجتماع العراقي من تغوّل الصراع الاهلي، عبر ترصين الحماية الوطنية للجميع، وعبر إشاعة قيم المواطنة والعدل
الاجتماعي. ثقة الشعب بالمرجعية وبدورها التوجيهي والتربوي هو ما يضعها في صُلب المشروع الوطني، ليس في التوصيف السياسي، بل بالتأطير الاخلاقي الشرعي والانساني، والذي يعكس مدى الحاجة الى هذا التأطير، والى اهمية وجودها في ظل تقاطعات سياسية معقدة، وصراعات لم تستطع القوى السياسية الحدّ من غلوائها، أو حتى مواجهة تداعياتها على المشروع الوطني، وعلى طبيعة الخطاب السياسي ذاته..
إنّ اهمية الخيارات العاقلة هو جوهر خطاب المرجعية، إذ يمكن لهذه الخيارات أن تلعب دورا مهما ومؤثرا في تخفيف أعباء الازمة من جانب، وفي مساعدة السياسيين على تدارك اخطاء فشلهم وعجزهم لمعالجة ماينبغي معالجته تفاديا لوقوعهم في اخطاء واخطار كبيرة، وأحسب أنّ الخطاب المرجعي في هذا السياق يمثل الوجه الناصع والقوة الرمزية التي ينبغي الثقة بها في هذا الزمن العصيب، لكي لا يفقد الجميع زمام المبادرة، أو لكي يجد الجمهور التظاهري السلمي من يحترم مطالبه، ومن يصغي لصوته...
السياسة والمبحث الأخلاقي
الحديث عن الإشكالية السياسية يعني الحديث عن أزماتها، وعن الطابع الصراعي الذي تورّطت به، وأن حاجة السياسة للمبحث الاخلاقي يعني الحاجة الى القوة الفاعلة التي تحدّ من ظواهر تلك الاشكالية من عُقد الغلو، والتأزيم، وتضخم روح الكراهية.
التلازم بين السياسة والاخلاق قد يكون صعبا، لكنه اصبح اليوم ضرورة، لطبيعة الاخطار التي باتت تكتنف الشارع السياسي العراقي، وحتى الشارع التظاهري، ولعل ما حدث في السنك من قتل فاضح للمتظاهرين، أو ماحدث في منطقة الوثبة من جريمة يندى لها الجبين يكشفان عن طابع التدهور في السلوك السياسي، أو في العنف الاهلي، هو ماسينعكس سلبا على المعطيات الحقوقية، وعلى قيم التواصل بين الجهات الرسمية والمتظاهرين، فضلا عن أثرها السلبي على قيم الفضيلة الاجتماعية، وعلى صياغة العقد الاجتماعي بين ابناء المجتمع ذاته، فلا تفسير للكراهية، ولا للغلو والتمثيل في القتل، وهي سلوكيات شائنة، ومواقف قد تؤسس لتقاليد عنفية أكثر رعبا، وأكثر تأثيرا على الاجيال الجديدة، والتي نحرص على تنميتها الاخلاقية، وعلى أهمية أن يكون دورها في الفضاء التظاهري عامرا بالوعي والمسؤولية وبالالتزام الاخلاقي الذي هو
الجوهر العميق للثورات الانسانية الكبرى...