لا ريب أن من أولى مهمات الدبلوماسية العراقية في كل العهود هي الاهتمام المركز بالدراسات السياسية والاقتصادية والامنية والثقافية التي تجرى على دول الجوار الجغرافي للعراق.. فالى جانب الاهتمام بالدراسات النظرية واقتفاء اثرها هناك مهمة متابعة الدراسات الاستطلاعية والعمل الميداني للمساهمة في فهم الظواهر المحيطة من اية جهة كانت ولأي غرض هدفت، ذلك لأنّ دوافع سياسات دول الجوار ومخططاتها تؤثر بنحو كبير على العراق في الميادين كافة
من هنا تأتي اهمية متابعة الدراسات الاكاديمية للتعرّف على مستجدات البحوث والاستفادة منها في اقرار سياستنا الخارجية.. وتشاء الصدف أن أعثر على رسالة دكتوراه بالعلاقات الدولية قدمها طالب عراقي هو عبد القادر عبد الرزاق احمد في جامعة النيلين بالسودان عن «اثر تغيير الحزب الحاكم في تركيا على توجهات سياستها الخارجية ازاء العراق
2002 - 2016» .
وعند اطلاعي على هذه الاطروحة وجدتها قيمة جداً وقررت ان اقدم بعضاً يسيراً منها على أمل ان تقوم دائرة الدول المجاورة او معهد الخدمة الخارجية في وزارة الخارجية بدعوة الدكتور عبد القادر ليقدم محاضرة عن رسالته هذه لطلبة المعهد، وتقوم الوزارة بنشر الرسالة للاستفادة منها ومما توصلت اليه من نتائج، وكلي ثقة ان المسؤولين في الخارجية سيولون الاهتمام اللازم لهذه الدراسة.
بعد ان يكتب الباحث مقدمته بنحو واف ذاكراً فيها مشكلة الدراسة وفرضياتها وتساؤلاتها واهدافها واهميتها يتناول منهجها وحدودها ولا يهمل الدراسات التي سبقتها في هذا الميدان.. ولكي يعالج موضوعه يقسم بحثه الى اربعة فصول وهي: الفصل الاول عن متغيرات السياسة الخارجية والثاني عن السياسة الخارجية في الشرق الاوسط والثالث عن العلاقات التركية العراقية في ظل انظمة متغيرة قبل عام 2003 والرابع عن أثر تغيير الحزب الحاكم (يقصد حزب العدالة والتنمية) في تركيا على السياسة الخارجية، وينهي الباحث اطروحته بالخاتمة
والتوصيات ..
يكتسي الفصلان الثالث والرابع اهمية كبرى اذ يبحثا على التوالي في عملية صنع السياسة الخارجية التركية ازاء العراق، ومن ثم يجري التطرق الى ابرز القضايا في العلاقات التركية العراقية قبل عام 2003 ويتناول الباحث اهداف العراق في علاقته بتركيا وبالمقابل اهداف تركيا في علاقتها مع العراق، ومن ثمّ الرؤية التركية الجديدة بعد 2003. ثمّ يقوم باستبيان وتصميم لمجتمع البحث كما يتولى تحليل أثر تغير الحزب الحاكم في تركيا تجاه العراق..
في هذا البحث القيم نجد خلاصة وافية لسياسة تركيا ازاء العراق بعد تولي حزب العدالة والتنمية الحكم ومن خلال المفاهيم الاستراتيجية التي خطط لها وزير الخارجية احمد داود اوغلو وقتذاك، نتبيّن مؤشرات سياسته التي ضمنها كتابه «العمق الاستراتيجي» وقد اختصرها المؤلف بخمسة أركان وهي :
أولاً: التوفيق بين الحريات والأمن، ففي وقت كانت فيه الولايات المتحدة تعلن انها تغلب الاعتبارات الامنية على ما عداها بعد احداث 11 ايلول عام 2001 كان على تركيا ان تختار طريقها وفقاً لذلك، الامر الذي جعلها تفضل الحفاظ على مكتسباتها في ميدان الحريات دون ان تفرط بالمتطلبات الامنية.
ثانياً: تصفير المشاكل من خلال تخفيض حدة الحساسيات والمشكلات مع الدول المجاورة لتركيا الى درجة الصفر، اي انتشال تركيا من مشاكلها وجعلها البلد ذا العلاقات الجيدة مع الجميع، الامر الذي سيمنح السياسة الخارجية التركية قدرة استثنائية على المناورة.. ومما لاريب فيه فإنّ اوغلو قد صاغ هذا البند في سياسته استناداً وتدعيما لمقولة أتاتورك المشهورة «سلم في الداخل وسلم في الخارج».
ثالثاً: اتباع سياسة خارجية متعددة الابعاد بدلاً عما هو متداول في الساحة الدولية من مقولات شرق/غرب و شمال/جنوب، الجنوب وآسيا واوروبا، الاسلام والغرب. مقولات تدفع تركيا الى ان تكون مصدرة للمشاكل. ان سياسة تعدد الابعاد على العكس تجعلها تصدر حلولا للمشاكل.
رابعاً: إنّ ذلك يساعد تركيا لكي تكون مركز جذب يسهم في ارساء السلام الاقليمي والعالمي.
خامساً: اعادة تعريف دور تركيا على الساحتين الاقليمية والدولية من كونها «بلد جسر» الى «بلد مركز» جاذب وفاعل والانتقال من السياسة الجامدة والكمون الدبلوماسي الى الحركة الدائمة والتواصل مع كل الدول.
تبدو صورة هذه السياسة الخارجية التركية ورديّة ومسالمة وعقلانية، ولكنّها نظرياً هكذا وميدانيا قد لا تكون متطابقة في الضرورات الميدانية التركية وبخاصة عندما يتعلق الامر بالامن القومي التركي الذي هو في الواقع سبب مباشر لتوتير العلاقة مع الجيران بدلا عن تصفيرها.
علينا أن نعترف في هذا المجال بأمر على قدر كبير من الاهمية كاد لو سار على ما خطط له أن يقلب الطاولة الاقليمية رأساً على عقب ويؤدي الى نشوب حرب اقليمية ضروس، والمقصود موقف تركيا التي يحكمها حزب العدالة والتنمية
من ايران.
يشير المؤلف بكثير من الصحة الى ان موقف الدول الاقليمية المتوجسة من النفوذ الايراني فضلاً عن الفراغ الاستراتيجي الحاصل نتيجة التراجع العربي جعل البعض يتجه الى استخدام الاسلام السني التركي في مواجهة الاسلام الشيعي الايراني.. ومجرد النظر الى عوامل القوة التي تملكها ايران وتركيا يفضي الى استنتاج ان الاجواء التنافسية طبيعية بين البلدين لجهة الموقع الجغرافي ولجهة القدرات الصناعية والبشرية والعسكرية.. ولكن الامر محسوم من الناحية التركية فسياسة تعدد الابعاد لن تنجح اذا وضعت تركيا امامها هدف اضعاف ايران او سوريا او روسيا.
لذلك حدث العكس اذ تحولت العلاقة مع هذه البلدان الى علاقة تعاونية وترسّخت العلاقات بدل ان تتدهور. وباختصار بإمكان الدبلوماسية العراقية الاستفادة القصوى من التحولات الاقليمية التي غالباً ما يتمّ بحثها اكاديمياً وتكون ذات نفع عظيم للعراق.