من الواضح جداً، إنَّ العراق اليوم يمرُّ في أتون أزمة ليست سهلة، وهي ليست الأولى بطبيعة الحال، ذلك أنَّ أزماتنا تتناسل وتتواصل في حركة جيليَّة ممتدة، فما انْ نخرج من واحدة، حتى ندخل في أخرى جديدة، قد تفوق سابقاتها في الشدة وتختلف عنها في الاتجاه.. وإذا أردنا أنْ نستعرض سلسلة الأزمات التي تركت آثارها في واقعنا العراقي، فسنحتاج الى مساحات واسعة من الورق وأعدادٍ كبيرة من الأقلام لتدوين التفاصيل، ولكن حسبنا في ذلك أنَّ للتاريخ قلماً ولساناً، لن يهمل شاردة أو واردة إلا ودونها في أسفاره، صغيرها وكبيرها، بصرف النظر عمّن يتولى عمليَّة التدوين التاريخيَّة هذه، فقد يعمد المدونون الى رسم مسارات تختلف عن وجهات الأحداث الحقيقيَّة، ولذلك فقد اختلفنا كثيراً واعتركنا، وتباعدنا بُعد المشرقين، ولعلَّ واحداً من أهم أسباب استمرار رزوحنا تحت نير الأزمات، هو التدوين المزور لمجريات أزمتنا الراهنة ذات الرؤوس والأبعاد المتعددة، وهي بلا شك لها جذورٌ وامتدادات تعود الى طبقات زمنيَّة سحيقة، وإذا أردنا أنْ نتجاوز بعضاً من تلك الطبقات، فإنَّنا نكتفي بطبقة ٢٠٠٣، أي مرحلة ما بعد سقوط النظام المباد الذي كان عبارة عن أزمة مستمرة، فبعد مرحلة التغيير التي كان العراقيون ينتظرونها بصبر فارغ، جرت مسارات الأحداث بنحو لا يتماهى وحجم الحلم الكبير الذي كان يعيشه الناس يومذاك، فكان التأسيس خاطئاً، لأنه استند الى أسسٍ غير صحيحة، لذلك ولدت العمليَّة السياسيَّة وهي تعاني الكثير من التشوهات التأسيسيَّة، كان بالإمكان معالجتها قبل استفحالها، ولكنْ وجود محركات كثيرة ومختلفة الاتجاهات جعلت من مهمة المعالجة صعبة، إنْ لم تكن مستحيلة. فقد كان بالإمكان تعديل الدستور الذي كُتب في ظروف لم تكن مثاليَّة، لبدتها غيوم فقدان الثقة بين الأطراف التي أعدت هذا الدستور، ولو جرى التعديل الدستوري الذي تضمنه المطلوب، لوقانا الكثير من الإشكالات والمشكلات التي نحترق باتونها اليوم، وليت الأمر اقتصر على الدستور وتعديلاته، إنما واجهت البلد مشكلات متفاقمة في المجالات الاقتصاديَّة والاجتماعيَّة والسياسيَّة وغيرها، فكنّا أمام جملة من المشكلات التي ألقت بظلال قاتمة على المشهد برمته، لدينا مشكلات في الخدمات، لدينا بطالة، لدينا نسب فقر مرتفعة، لدينا مشكلات في الصناعة والزراعة والسياحة والنقل والتجارة والصحة والتعليم والسكن، لدينا عشوائيات، لدينا مشكلات في التوظيف، لدينا فساد وبالتأكيد إنَّ مجتمعاً يتعرض لكل هذه المشكلات ستُصاب منظومته القيميَّة بفايروس فقدان المناعة!، ونتيجة لذلك فقد بدأنا نشهد ظهور مشكلات أخرى من نوع مختلف، فلأول مرة نشاهد سلوكاً شعبياً دموياً غير مسبوق، ونشير هنا إلى ما حدث في ساحة الوثبة وسط بغداد العاصمة التي ينبغي أنْ تكون مدينة للسلام والوئام، كما هو اسمها.
تفاقم المشكلات هذا أوصل الناس الى حالة من اليأس والإحباط، وانقطاع الأمل بحدوث التغيير، ولهذا جاء الحراك الشعبي الواسع متمظهراً بالتظاهرات الواسعة التي شهدتها بغداد وعددٌ من المحافظات، في محاولة لإيقاف التداعي وإعادة ضبط بوصلة الحياة في العراق بالاتجاه الصحيح، فكان من نتاج هذا الحراك الشعبي الفاعل تحقيق خطوات مهمة على طريق التصحيح، ومن أهم ما تحقق هو استقالة الحكومة، وهذه سابقة تحدث لأول مرة في العراق أنْ تستقيل الحكومة نتيجة لضغط الشعب من دون دبابات ولا بيان رقم ١.
إلإ أنَّ المشكلة، وكما جرت عليه أحوال العراق سابقاً ولاحقاً، أنَّ هناك عدداً من المحركات الداخليَّة والخارجيَّة بدأت تسعى لسحب الحراك الشعبي باتجاهات مختلفة، حسب اتجاه تلك المحركات، الأمر الذي من شأنه أنْ يضعف هذا الحراك ويجرده من قوته التي استطاع من خلالها رسم ملامح خريطة جديدة للحياة في البلد.. وليس بخافٍ على أحد إنَّ المحركات التي نشير إليها قد تكون ثلاثة أو أكثر، ومنها محرك القوى السياسيَّة بجميع مسمياتها، داخل البرلمان وخارجه، وهذه القوى دائمة الخلاف والاختلاف، ثم يأتي المحرك الخارجي المتمثل بالصراعات بين القوى الإقليميَّة والدوليَّة، ومحاولة كل قوة من تلك القوى الاستحواذ على المساحة الأكبر من مساحة الصراع، وقطعاً إنَّ قوة وضعف التأثير الخارجي يستندُ ويعتمدُ بالأساس على الوضع داخل البلد، فلو كنّا كالبنيان المرصوص يشد بعضنا بعضاً، لأغلقنا أي نافذة يمكن الدخول عبرها.
وهنا يأتي دور المحرك الثالث، وهو الأهم والأقوى تأثيراً، وأعني به الشعب الذي بإمكانه أنْ يمسك الزمام ويغلق النوافذ، ويقود المركبة بأمان نحو بر الأمان، وهذا الذي يجري الآن.
المهم، اليوم أنْ يتوحد دوران المحركات الداخليَّة باتجاه واحد، لكي تتضاعف قوة الدفع وتمضي قاطرة الوطن بقوة، صوب محطة تحقيق الآمال وإصلاح الحال.
عدا ذلك، فإنَّ اختلاف اتجاهات المحركات الداخليَّة يضعف قوة عزمها، ويوفر المساحة المناسبة للمحركات الخارجيَّة لتملأ المساحة بالكامل، ومعنى هذا استمرار الأزمة، بمحركات خارجيَّة تأخذنا بعيداً عن تصحيح مسارات الواقع.