آلان جونز.. شاهد تفجير جزر مارشال النووي
بانوراما
2019/12/29
+A
-A
سوزان روست
ترجمة: بهاء سلمان
خلال صيف 1952، كان آلان جونز، المجتهد ذو الشعر الأحمر والابتسامة الساخرة، توّاقاً للإثارة والمغامرة، وقاد سيارته عبر ساحل كاليفورنيا من بيكرلي الى لاجولا، على أمل الانضمام لبعثة استكشافية لعلم المحيطات متوجهة صوب جنوب المحيط الهادي.
وبقي على حماسته لغاية استعداده لركوب سفينة «الأفق» التابعة لمعهد سيكربس لبحوث
المحيطات، ليكتشف وجود مهمات أخرى أكثر من ترسيم خرائط قاع المحيط، فطاقم طلبة الدكتوراه والرجال البارعون أمثال جونز، الذين «يمكنهم تصليح الأشياء»، كانوا ذاهبين الى جزر مارشال لتسجيل الموجات المتولّدة عن أول قنبلة هيدروجينية في العالم
تجربة مريرة
وبعد ستة أشهر، وتحديداً يوم الأول من تشرين الثاني، وبعد رؤية إحدى الجزر تتبخر، ظهر على جونز ومن رافقه على متن سفينة الأبحاث آثار تسرب إشعاعي، فقد عملت الحادثة على تخفيض قدرته على إنتاج الصفائح الدموية لسنتين، كما يعتقد جازماً، والآن يتساءل إنْ كان قد تسبب الإشعاع باعاقات نمو لإبن ولد له لاحقاً، علاوة على تعرّض زوجته لحالات إجهاض وولادات ميتة لأجنتها. «لم نفكر بهذا حينها، لكن من المحتمل تسبب ما شهدناه بهذا الحال»، هكذا قال جونز مؤخراً، متحدثاً من منزله وهو معكوف الأصابع.
كان جونز أحد مدنيين قلائل شهدوا الحادثة، وتركته مرتبكاً، حتى بعد سبعة عقود، مع تذكره كيف كان قاربه وطاقمه ضعيف التحضير لتداعيات القنبلة: «كان قاربنا بطيئاً للغاية للخروج من المنطقة»، يقول جونز، منوهاً بأنه بينما ابتعد كل قارب ذلك اليوم أكثر من مئة ميل عن موقع التفجير، كان مركبه على مسافة 72 ميلاً فقط، بحسب الوثائق العسكرية.
وكان اهتمام جونز بالرحلة الاستكشافية قد توهج خلال سنة التخرّج من جامعة كاليفورنيا بمدينة بيركلي، عندما حضر محاضرة ألقاها روجر ريفل، مدير معهد سكريبس وعرّاب علوم التغيّر المناخي، حملت عنوان: بعثة 1950 العلمية الى جزر مارشال. وعلى مدى دورة استغرقت ثلاثة أشهر، قطع ريفل وفريقه المكوّن من العلماء والفنيين والطلبة الجامعيين 25 ألف ميل من مياه المحيط الهادي الدافئة المدارية، راسمين خرائط لقاع المحيط مع طوافهم بحرا لسلسلة جبال وكهوف تحت الماء لم تر من قبل مطلقاً.
وأشار جونز الى أنه كان على وشك الشروع برحلة استكشافية أخرى في خريف 1952، فبعد يوم من تخرجه، استقل سيارته وقاد مسافة خمسمئة ميل صوب لاجولا. ويتذكر خبير الزلازل، المتقاعد من دائرة المسح الجيولوجي ذو الـ 92 سنة، قائلا: «لم أكن أعتقد أنَّ ريفل سيضمني لفريقه، لكنه فعل ذلك». وشرعت سفينة الأفق يوم الثاني من أيلول برحلة لخمسة أشهر للطواف عبر المحيط الهادي بباحثين بلغ تعدادهم 13 عالما، اضافة لطاقم من عشرين فرداً.
رحلة الأسرار
استغرقت الرحلة لجزر مارشال ثلاثة أسابيع، ويتذكر جونز انشغاله طول الوقت بالعمل، محضراً أجهزة التسجيل، بيد أنه كان هناك أيضا الكثير من الوقت للهو والضحك. وبحسب مذكرات ادوارد بار، الباحث الأصغر عمرا ضمن البعثة، حيث كان بسن التاسعة عشرة، حصلت أعمال ترفيه، من اطلاق نار وغناء ليلي، وقراءة وكتابة فصول لروايات مختلفة. ووصلت السفينة يوم 15 تشرين الأول شمال جزر مارشال، مبحرة عبر ممر ضيّق لجزيرة انيويتاك المرجانية بمعونة من طيار تابع للبحرية. وقبل تمكنهم من الدخول، تلقى الطاقم أوامر مشددة بعدم استعمال جميع الكاميرات ومواد الكتابة، فهي ممنوعة تماما. كتب بار في مذكراته: «هذه الأخبار جعلتني أشعر بالضيق نوعا ما، لكنني قررت أن أكون متكتما للغاية حيال مذكراتي والتقاطي للصور. كان مسوّغي هو اذا لم يحتفظ أي شخص بتسلسل زمني مكتوب لهذا الحدث، فالتاريخ حينها سيصير أكثر أهمية بشكل مطلق من الخوف من الروس!».
وعلى مدى الأسابيع القليلة التالية، طاف الطاقم حول جزيرة انيويتاك، واضعا كابلات على طول قاع البحر، منصبا منصات تسجيل في نقاط مختلفة، مراقبا نشاط الحيوانات التي تقطن الجزيرة باختلاف أنواعها. ومع اقتراب يوم الاختبار النووي، استعد طاقم السفينة لذلك؛ بينما ذهب بار برفقة زميل آخر، بيرنارد دارسي، الى جزيرة جيليت، ضمن جزر بكيني، الباعدة أكثر من مئة ميل، أما بقية الطاقم فقد بقوا على متن السفينة، متابعين تعديلاتهم الأخيرة واختبارات التشغيل.
يوم 31 تشرين الأول، الليلة السابقة للتفجير، تأمل بار وزميله الاختبار الغامض والخطير الذي هم على وشك مشاهدته: «حل الآن وقت الدعم المطلق لاستقراء علمي»، هكذا كتب بار. وتناول الاثنان دواءً ليبقيهم متيقظين، فلم يرغبا بتملك النعاس لهما أثناء تلك اللحظات المهمة من العمل، كما راجعا الأوامر: أبلغ بار أنه حين التفجير ينبغي عليه «الوقوف خارج الخيمة مواجهاً القنبلة بقدمين وساقين مدفونتين بشكل محكم داخل الرمال». بوضوح، كان هذا الإجراء لحمايته من أنْ يقذف خارج الجزيرة بأثر موجة العصف.
انتظار الأوامر
وبمجرّد إكمال حالة الدفن، كان على بار انتظار إشارة راديوية: فإذا سمع كلمة «أيبل» (ABLE) ثلاث مرات، فهذا معناه أنَّ موجة عارمة في الطريق اليه، وعليه إيجاد أطول شجرة جوز الهند كي يتسلقها ليلوذ بحياته الغالية. واذا سمع “برافو” (BRAVO) ثلاث مرات، ينبغي عليه البقاء متسلقاً، لكنَّ الموجة ستبيد الجزر المجاورة، واذا سمع “تـشارلي” (CHARLIE) ثلاث مرات، فهذه موجة صغيرة قادمة، وعليه الخروج من الرمال والصعود الى رابية، واذا كانت الاشارة “دوغ” (DOG)، فلا يجب عليه التحرّك
على الإطلاق.
وبعد السادسة صباحاً بقليل، سار الاثنان على الساحل، وحفرا حفرتيهما على التوالي، ودفنا سيقانهم بشكل محكم وانتظرا. عند السادسة والنصف، سمع بار ودارسي وجميع طاقم السفينة، التي كانت على بعد 72 ميلاً شمال موقع التفجير، العد التنازلي، ومن ثم شاهدوا سماء الصباح تنير المنطقة بتوهّج شديد. يتذكر جونز رؤيته لـ”كرة نار برتقالية هائلة”، بينما وصف بار في مذكراته “إضاءة وردية ساطعة” ظهرت للخارج، ومن ثم “ارتفعت الى الأعلى، جاعلة كل شيء أحمر براقاً”.
بعد عدة دقائق، أتى الصوت، ويتذكر جونز دوياً هائلاً رافقه 17 قصفاً للرعد مع ارتدادها بين طبقة الستراتوسفير والمحيط. وبحسب بار “كانت مهيبة للغاية، وصامة للآذان، ومذهلة. كانت بمثابة صوت مئة عاصفة برق تأتي الينا من جميع الاتجاهات. بدت وكأنما السماء ستنفجر، ووقفنا جميعاً وسط هلع المفاجأة، أمام العرض الأكبر لتوظيف البشر لذرة الهيدروجين. واستمرت كارثة الصوت لدقائق، لتتلاشى تدريجياً بعد ذلك، وعانيت من آلام أذن وطنين لعدة ساعات”.
ارتباك وهلع
ومع تطلّع بار للأشجار القريبة، مخمّناً قوتها وطولها، لاحظ جونز تجمّع غيوم عملاقة في السماء، ومن ثم حصول «عتمة» تتحرك بسرعة تجاه السفينة. وبحسب الوثائق العسكرية، كانت سفينة الأفق على بعد 72 ميلاً مع اتجاه الريح، في منطقة معرّضة للتسريب الإشعاعي. «لقد كنا في المكان الخاطئ وفي التوقيت الخاطئ»، يقول جونز، الذي يتذكر تسابق أفراد الطاقم نحو منطقة تحت سطح المركب، غالقين باحكام الفتحات والأبواب، وإيقاف أنظمة تفريغ الهواء. هطلت الغيمة، راشقة السفينة بعاصفة من الإشعاع على مدى ساعتين. يقول جونز: «وسط هذا الإرباك، شرعنا حقيقة بالتحرّك صوب التفجير، واستلزم الأمر ساعة قبل إدراكنا بسيرنا في الاتجاه الخاطئ».
ومع انتظار الطاقم لزوال العاصفة، والتي تحركت للأمام في النهاية، صار سطح المركب السفلي حاراً وخانقاً ورطباً، ورغم توقف جهاز تكييف الهواء، بقيت آلات السفينة تعمل. «كان الوضع لا يطاق»، يقول جونز، الذي يتذكر اضطراره للبقاء تحت سطح المركب لأكثر من 24 ساعة. وتوقفت عدادات الاشعاع التي أمرتهم البحرية الأميركية بحملها، وكانت هناك أصوات لاطلاقات سريعة تصدر من مقياس غيغر للنشاط الاشعاعي، الذي كان يحمله مراقب البحرية المتواجد على متن السفينة، بحسب جونز.
وحينما وصلتهم في نهاية المطاف اشارة انتهاء جميع الفعاليات الخطرة، أدرك الطاقم أنَّ كل شيء على سطح المركب كان ملوّثاً، يقول جونز. وكان نظام الرش للمركب، المصمم بالأساس لمعالجة مثل هذه المواقف، قد استخدم مياه البحر لغرض إزالة التلوّث، بيد أنَّ مياه المحيط المحيطة بالسفينة كانت ملوّثة؛ وتوجب على الطاقم رمي كل شيء كان موجوداً على سطح المركب.
قرار المغادرة
لم تكن لدى جونز أية فكرة عن مدى ما تعرّض له ذلك اليوم، وأخذ ضابط البحرية الموجود على متن السفينة مقياس الاشعاع العائد لجونز، الذي قال عنه إنَّه عمل فوق طاقته؛ لكنه علم بعدم رغبته في البقاء لمدة أخرى. وكان من المفترض بقاء سفينة الأفق لمراقبة اختبارٍ ثانٍ، لكن جونز اختار بدلاً من حضورها الانتقال الى سفينة أخرى تابعة لمعهد كريبس، اسمها (سبنسر باريد)، التي كانت في طريقها الى جزر مارشال ومن ثم الى جزر أخرى بالمنطقة المجاورة. وقرر بار المغادرة أيضاً.
وبحسب جونز، انتهى المطاف بالعديد من أفراد الطاقم الذين بقوا على متن السفينة بالوفاة بوقت مبكر بسبب إصابتهم بالسرطان، ولم يتم التأكد من هذه المعلومات على وجه اليقين. وبالنسبة لصحته، قال الجيولوجي المسن إنَّ عدد الصفائح الدموية هبطت لديه بشكلٍ حاد بعد الاختبار النووي، وكان عليه للسنتين التاليتين حقن نفسه شهرياً بابر الحديد وفيتامين بي 12، «التي بدت بالعمل بشكل فعّال للغاية».
لم يتم السماح لجونز بمناقشة الحادثة مع طبيبه، أو التصريح بأية معلومات ربما تعمل على مساعدة طبيبه على فهم ما كان يجري، رغم أنه «شخص الحالة»، بحسب قوله. ولا يعلم جونز ماهية التأثيرات الأخرى التي ربما طالته بسبب الاشعاع، رغم إقراره بعدم وجود أثر مباشر على طول عمره. لكن لديه تساؤلات غامضة عن أطفاله، حيث يشير الى تعرض زوجته لحالات متعددة من الإجهاض وإسقاط الأجنة، والصبي الوحيد الذي بقي على قيد الحياة كان يعاني من عوق شديد في النمو، وابنه وزوجته متوفيان منذ سنين.
وعندما سُئلَ عن إنْ كان سيقدم على فعل ما فعله مجدداً، هز جونز كتفيه مستهجناً، قائلا إنَّ الرحلة الاستكشافية لجنوب المحيط الهادي أمر رائع للغاية، لكنَّ القنبلة كانت مرعبة، وهو قلق من استخدام إحدى الدول لإحدى تلك القنابل مرة أخرى: «تلك القنابل سوف تدمرنا، فهي تمثل قوة بشعة للغاية».
صحيفة لوس انجليس تايمز الأميركية