نصير فليح
لا أريد أن أبدو متشائماً ولا أحب ذلك، ولكن التفاؤل الساذج ليس له محل أيضاً إذا ما نُظرَ الى الواقع بواقعية. وأحسب أن بانتظارنا – وهو ما لا أتمناه ولا أرجوه – «أعوام عجاف»، نأمل من بعدها «أعواماً سماناً»، عندما يتولد من رحم هذا المجتمع الشديد التمزق مجتمع جديد لا يمثل امتداداً له، بل قطيعة معه.
الأسباب التي تولد الأزمات المستمرة في واقعنا السياسي عديدة، وجذور هذه الاسباب عديدة ومتشابكة جداً، وموغلة في طبيعة المجتمع العراقي نفسه والدولة العراقية منذ تأسيسها، وفي الوضع الاقليمي والعالمي، ولا يبدو في الأفق القريب أن كل ذلك آتٍ الى نهاية قريبة.
فالتمزق السياسي الحالي، والتدهور الأخلاقي العام – لا على مستوى الطبقة السياسة فقط – الذي يجعل من الأنانية الضيقة محراب السعي وغاية المنتهى، كل هذا له جذوره في تركيبة المجتمع نفسها، وبات أكثر كثافة مع أخلاقيات الفساد التي تنامت في العقود الماضية – لا سيما من تسعينيات القرن الماضي – ومنهج المحاصصة الذي أصبح من أقانيم الطبقة السياسية الحالية. وما المخاص العسير لكل خطوة ايجابية لصالح الشعب، والولادة السهلة لكل خطوة لصالح الطبقة السياسية (كما في امتيازات النواب مثلاً) إلا أحد وجوه التعبير عن هذه الأخلاقية المتفشية المؤسفة.
ومما يرسخ هذا الوضع ويزيده انسداداً، هو الوضع العالمي والإقليمي. فلو كان التوتر المزمن بين الولايات المتحدة وحلفائها من جهة، وإيران وحلفائها من جهة أخرى، ليس بهذه الدرجة من الاستمرارية والحدة، ولو لم تكن مصالح اللاعبين الاقليميين تصب مباشرة في هذا الاستقطاب الحاد، لكانت ممهدات بعض الاستقرار السياسي في بلادنا أكبر بكثير.
إنّ تصور وصول الطبقة السياسية في العراق الى مرحلة من النزاهة، بحيث تقول أو تقتنع أو تعمل فيها باعتبار مصالح الشعب والمصالح العامة أولى من مصالحها الضيقة، يبدو شيئاً من رؤى الخيال وأضغاث الأحلام، أكثر مما هو «رؤية صادقة». وإذا ما حصل شيء ايجابي، ولو جزئي، فلن يكون إلا بعد المخاضات العسيرة البطيئة، وربما عندما يشعر اللاعبون السياسيون أنفسهم أن شيئاً من التنازلات عن مصالحهم أمر لا مناص منه، أو انه «الحل السيئ» الذي لا بد منه لتفادي الذهاب الى «الاسوأ»، مثل تفادي حرب أهلية شاملة لا تبقي ولا تذر.
كثيراً ما بينت دروس التاريخ أن عدداً من النهضات الكبرى لا يأتي إلا بعد النوائب الكبرى، خصوصاً في الأوضاع المستعصية من التعقيد والانسداد. حيث تسبب تلك النكبات الكبرى من التغيرات البنيوية في عمق المجتمع وفي وعيه، دوافع غير مسبوقة، مع نشوء جيل جديد من ذلك الرماد الكبير، ما يمهد لنهوض طويل الأمد. ويبدو هذا شديد الشبه بوضع بلادنا في الوقت الحالي.
لكن منطق الحياة والتأريخ له، من الجانب الاخر، القوة الكافية لإطلاق عنقاء الرماد حتى بعد أشد النوائب ظلاماً. والاحتجاجات الجارية اليوم، ومطالبة الأجيال الجديدة بحقوقها وخيرات بلادها (التي يختصرها الشعار البليغ: نريد وطناً) مرحلة من مراحل ظهور عنقاء الرماد هذه، ولن يكون الظهور الأخير لها، فهناك ظهورات اخرى مقبلة، بعد كل انتكاس وتدهور ويأس شديد.
الفساد المستشري وأكل السحت لا يمكن أن يستمرا مهما طال زمانهما، ولا هذا التمزق السياسي الشديد، ولا غياب وتراجع الهوية الوطنية لصالح الهويات الضيقة المناطقية والقبلية والطائفية، ولا التوتر الشديد الإقليمي والدولي في المنطقة. أما بلادنا نفسها، ففيها من الخيرات ما يبرر مقومات النهوض الكبير، نهوض لا بد آتٍ، وإنْ طال انتظاره.