صار مكررا وغير ذي قيمة أن يقال، إنّ القوى الكبرى لم تعد تستخدم القوة لاحتلال دولة أخرى لأي سبب كان.. فكلنا صار يعلم أن الاحتلال بحد ذاته لم يعد هدفا، لكن ما يهم حقا هو التأثير والتحكم بالمقدرات وسلب قرار البلد والتلاعب به بما يحقق مصالح المؤثر.
قديما كانت الدول تتدخل بشكل مباشر عن طريق قواتها وثقلها العسكري، لتأتي بنظام موالٍ أو مقرّب منها، بعد أن تزيح النظام السابق، أو تقوم بتأديب النظام نفسه، وتجعله مطيعا ودودا لما تريده من مطالب وشروط يمكن أن تفرضها.. تنفع الوطن أو لا، مسألة.. ثانوية، فالمهم ما يريده المحتل..
بسبب الخسائر العالية في الأرواح والأموال، وانقلاب الرأي العام في بلد الاحتلال نفسه ضد هذه الحروب، وكما حصل في أنموذج التدخل الأميركي في فيتنام.. انقلب الفكر الاستعماري، ليستخدم ورقة الحصار والتركيع الاقتصادي، حتى لو أدى ذلك لتدمير الشعب المستهدف، فالغاية تبرر الوسيلة دوما عند ساسة الدول الكبرى.. والصغرى أيضا!
لاحقا وبسبب ارتفاع فاتورة ورقة الاقتصاد وتأثيرها على الطرفين، صارت واجهات، يلجأ لها إلّا في الحالات التي لا يمكن معها استخدام طرق ثانية للتأثير والإعادة لحضيرة الطاعة.. فهل هناك من طرق أخرى؟!
تعتمد الحكومات في تمشية برامجها التنفيذية على دعم المؤسسات والوزارات وتطبيق البرنامج المقر سلفا، لكن هذا التطبيق يحتاج لرأي عام يقتنع بالبرنامج ويساند تطبيقه، فهذا الجمهور والمجتمع هم الأدوات الحقيقة لتنفيذه، وهم المستفيدون منه.. فكيف ينجح برنامج لا يقبلون به أو يتفاعلون معه!
هذا الرأي العام صار هو السلاح الأخطر الذي تحاول كل الدول والمؤسسات والجهات، أن تتحكّم به أو تتلاعب به وتستميله.. لأنّه سيتيح للمؤثر أن يحقق ما يريده من البلد أو المجتمع المستهدف دون أن يخسر جنديا واحدا، وجل ما يقتضيه الأمر، استغلال ذكي لظرف يمر به البلد المستهدف، ووجود سخط شعبي أو لجزء منه حول قضية أو وضع ما، وأموال كافية وعملاء يجيدون شراء الذمم.. وذمم يمكن
شراؤها.
تلك الذمم لا ينفع أن تكون لأفراد عاديين، بل يجب أن تكون لشخصيات أو جهات، لها تأثير ومقبولية لدى الجمهور، أو في الأقل طبقات منه.. ويمكن أن تتم صناعة تلك المقبولية من خلال تسويق احترافي مخابراتي إعلامي ذكي، يبدأ بفترة طويلة نسبيا تسبق الحدث المراد صناعة تلك الشخصية أو الجهة
له.
تبدأ لعبة صناعة الرأي بتقارير في فضائيات محددة بعيدة عن صلب الموضوع ولا تمسه إلّا بشكل خفي.. ومنشورات متفرقة هنا وهناك، لتلميع تلك الشخصيات وتسويقها تحضيرا لها، وخلق متابعين وهميين يستدرجون بهم آخرين حقيقيين، وكلما كانت ثقافة هؤلاء متدينة كان أفضل، ليسهل خداعهم ويتحقق الهدف من خلالهم.
عند وقوع الحدث يتولى هؤلاء، إشعال الأمور وتوجيهها حيثما يراد منهم، ودفع الساحة باتجاه التصادم والانفعالات غير المنضبطة، ومن ثم إجادة الانسحاب من الساحة، لترك الأمور تأخذ مجراها المتوقع والمخطط له..
تلك الأحداث لا تكون بالضرورة مصطنعة بالكامل، فكثير من أحداث الربيع العربي على سبيل المثال، كانت حركات طبيعية للشعوب ضد الطغيان والظلم والفساد المستشري، لكن تحولات الأحداث كانت موجهة ومسيطرا عليها بالكامل.. باتجاه الأجندة المرسومة..
يجب أن لا ننسى انه يمكن بسهولة لمن اصطنع حدثا أو تلاعب بتوجيه الحدث، أن يقوم بإعادة إلغاء ما اصطنعه أو إعادة توجيهه مرة أخرى، وحسب ما ترتأيه مصالحه ومخططاته، أو ما سيحصل عليه من مكاسب.