خلل التجانس في الجيش العراقي

آراء 2020/01/08
...

د. سعد العبيدي
لقد كانت البداية التأسيسية للجيش العراقي، في ظروف داخلية صعبة أعطته بعدا أمنيا أكثر من البعد الدفاعي الوطني، عدّه المحللون عاملاً مهماً في رسم الخطوط الأساسية لمستقبل العراق السياسي على نحو مهّد الطريق لصناعة أزمات طوال الوقت، وعموما فإنّ البريطانيين الذين أرادوا بدايته جيشا بديلا عن جيشهم في التعامل مع الوضع الداخلي، هم أكثر من أضفى على مشواره الطويل، الصيغة الغربية، البريطانية، الصحيحة، تنظيما: على مستوى دوائر ومؤسسات المقر العام، والتشكيلات الميدانية. وتدريبا، وتعبئة لاساليب القتال على وفق السياقات البريطانية. 
لقد استمرت الصيغ الاولى التي ارادها مؤسسو الجيش على ماهي عليه، حتى عام 1958 حيث التغير الواسع لما يتعلق بالتسليح والتجهيز الذي اتجه شرقا، والقيم العسكرية التي هوت انحدارا، والسياسة التي اخترقت جدار بنيته الرصينة، من خلال اختلاط العسكر باحداث الشارع، وانفعالاته السلبية. عدوى الحزبية التي انتقلت بعض معالمها عن طريق الوجبات الاولى للضباط الموفدين للدراسة والتدريب في الاتحاد السوفيتي. ومن خلال مساعي الضباط الحزبيين، البعثيين والقوميين العرب والشيوعيين الموجودين في الخدمة، الساعين الى نشر افكارهم وزيادة الكسب التنظيمي لاحزابهم. اختراقٌ، بدأ ذلك العام، وما بعده في كل الاعوام التي تلت، فتسبب في حصول تغير واضح المعالم او تصدع في بنية القوات المسلحة، بعد ان ارسى قواعد تقاطع سياسي، وصلت مستوياته في بعض المراحل الزمنية، الى التصادم العلني بين الاحزاب النافذة في الوحدات والتشكيلات القائمة آنذاك، كل يجري بالاتجاه الذي يضمن له السيطرة عليه "الجيش" كأداة مهمة لفرض النفوذ على السياسة، وكان نصيب الشيوعيين من هذا التصادم في بدايته استحواذ على شريحة المراتب حتى عام 1963، ونصيب البعثيين استحواذ واضح على مستوى الضباط، زاد بشكل كبير ليشمل عموم الضباط والمراتب بعد عام 1968. 
إنّ هذا النوع من الاستحواذ السياسي، سبقه استحواذ اجتماعي لا يخلو من السياسة، اذ اقتصر القبول الى الكليات العسكرية والامنية، بداية التأسيس ولغاية عام 1958، على ابناء الذوات والأسر المعروفة سياسيا وعسكريا وعشائريا، حتى ان المؤسسة وعندما شعرت بالحاجة الى المزيد "سد النقص الحاصل بالرتب الصغيرة بسبب التوسع بالتشكيل" بعد فترة قصيرة من التأسيس، توجهت الى العشيرة لتكون معينا لها، ومن ابناء شيوخها حصريا، يدخلون دورات قصيرة، ويمنحون الرتبة العسكرية، وان لم يحوزوا على الشروط المتعلقة بالتحصيل والعمر، فأخل الاستحواذ هذا بمستلزمات المهنية فنيا ومعنويا حتى بات هذا الامر موضوعا استمر العسكريون المحترفون يتداولونه نقدا الى ستينيات القرن الماضي، وعنه راجت عدة روايات تتعلق اغلبها بدوافع التطويع، بينها محاولة سحب العشيرة الى داخل جدار الدولة الامني، وربطها بمصالح تلزمها ان تدافع عن الدولة في ظروف باتت اغلب المشاكل تأتي من بين صفوفها. 
وبينها ايضا ان الملك فيصل الاول قد استشعر الانحراف المذهبي للجيش الذي ابتعد عن الجنوب العراقي بسبب موقف المرجعية الدينية من الانتماء اليه، وسعة تأثير الضباط المؤسسين الذين ينتمون جميعهم الى طائفة واحدة، ادى الى ان يسهل كل منهم لاقاربه وابناء مدينته الدخول الى الكليات العسكرية الفتية "تأثير التوسط في القبول" مما تسبب في ان يكون سواد الضباط في الجيش والشرطة ودوائر الامن من اتجاه مذهبي واحد، ومن عشائر ومناطق محددة، صبغت القوات المسلحة بصبغة الخصوصية على حساب العمومية. خرقٌ، استشعره الملك فيصل "حسب هذا الرأي" فأمر بفتح دورة خاصة لابناء عموم العشائر العراقية "أولاد شيوخها" ليمنحوا رتبة ملازم في الجيش، الا ان القادة العسكريين الموجودين في قمة الهرم العسكري والمؤسسة الدينية اسهما من جديد في ان يكون غالبية المنتسبين الى الدورة من العشائر ذاتها الموجودة في أعلى وسط وشمال العراق التي رحبت بالفكرة ودعمتها بالكثير من الشباب، في الوقت الذي امتنعت فيه غالبية العشائر الجنوبية "باستثناء القليل" للاسباب المذكورة نفسها، فدخل الى الدورة قليل من ابنائها، سجلوا حضورا وان لن يلبي رغبة الملك التي ارادها، فقد فتح بابا كانت موصدة، لآخرين، دخلوا منها الى صفوف الجيش، بتزايد متتابع لم ينه خلل التجانس كما هو 
مطلوب.
ان مشكلة التجانس المخلة بمهنية الجيش ووطنيته عادت الى الواجهة بعد العام 2003، وبشكل معكوس هذه المرة، سوف تكون عقبة أمام تأهيله عامل ردع فاعلا.