قواعد اللعبة الخطرة

آراء 2020/01/10
...

د.محمد فلحي
 
  لم توجه طهران صواريخها نحو تل أبيب في ردّها الانتقامي، ولكن ذلك لا يلغي جوهر الصراع في المنطقة، وكان رئيس الوزراء الاسرائيلي بنيامين نتنياهو نفى مشاركة قواته في عملية قصف مطار بغداد، وعدت العملية أميركية خالصة، وهو نفي يثبت تورطه، لأنه يمثل محاولة مكشوفة لتفادي رد الفعل الإيراني على هذه الجريمة، ومن يتابع تطورات الأزمة المتصاعدة بين طهران وواشنطن، منذ عقود، يجد أن تل أبيب تمثل عقدة هذه المواجهة، فالاستراتيجية الصهيونية تجد في المشروع العلمي النووي الإيراني تهديداً وجودياً لكيانها، وذلك بعد خروج أغلب الدول العربية من حلبة الصراع التاريخي
المصيري.
إيران تخوض صراعاً خطيراً متعدد الصفحات مع الولايات المتحدة واسرائيل، منذ الثورة الإسلامية عام 1979 حتى اليوم، وبعد سقوط النظام السابق فرضت الظروف الجيوستراتيجية احتكاكاً مباشراً بين واشنطن وطهران على الساحة العراقية، وقد كشفت الأزمة الأخيرة مقدار خطورة ذلك الاقتراب، الذي تحول أخيراً إلى تصادم، على أرض ملتهبة، بسبب تقاطع المصالح والانقسامات والتوترات على خلفية التعدد الديني والمذهبي والعرقي والحزبي في العراق!
 كانت هناك مقولة سائدة في ثمانينيات القرن الماضي، منسوبة للرئيس الأميركي الأسبق جيمي كارتر يقول فيها (إنّ أمن الخليج العربي يمثل جزءاً من الأمن الأميركي)، وهو يشير بالطبع إلى عنصرين يرسمان هذه الرؤية الأميركية وهما: النفط وإسرائيل.. ومن الواضح أن العدو المقصود هو النظام الإيراني.
 لم يعد سراً أن حرب الثماني سنوات بين العراق وإيران كانت مدفوعة الثمن لصالح النظام العراقي من دول الخليج العربية، تحت هاجس تصدير الثورة الإيرانية ومخاوف مذهبيّة، وكانت مسارات الحرب ونتائجها تخدم الاستراتيجية الأميركية- الصهيونية، من خلال تدمير دولتين جارتين مسلمتين وإضعافهما، وقد كانت كل منهما تمثل تهديداً للكيان الصهيوني، وفق معادلات الصراع وقواعد اللعبة الخطيرة في الشرق
الأوسط!.
تغيرت عناصر الصراع، خلال السنوات العشر الأخيرة، فلم يعد نفط الخليج يمثل أسبقية في المصلحة الأميركية، وتهاوت أسعار النفط إلى ما دون المستوى الذي تريده الشركات الأميركية، وبرزت صفقات بيع السلاح لدول المنطقة بديلاً عن أرباح الشركات النفطية، وجاء الرئيس الأميركي الحالي ترامب بمبدأ جديد لابتزاز الدول الخليجية، وهو ينطلق من خبرته التجارية، فأصبح يردد مهدداً متوعداً حكام الخليج: (إدفعوا ثمن حماية عروشكم وإلّا سوف نتخلى عنكم)، ولم يكن شبح إيران بعيداً عبر الخليج!. 
الحماية الأميركية لدول الخليج من عدو مفترض، مقابل حلب المال النفطي، لم تجعل اسرائيل خارج لعبة الصراع، بل زادت من حضورها غير المباشر في ظل الاتفاقيات بين طهران من جهة، وواشنطن وحلفائها الغربيين، من جهة ثانية، في ما يخص المشروع النووي الإيراني، وقد ظلت تل أبيب تعد أي اتفاقيات مع طهران ليست ذات جدوى، ما دام الهدف، كما يراه الصهاينة، وينفيه الإيرانيون، هو السلاح النووي!
الخطة الاستراتيجية الأميركية والإسرائيلية لمواجهة النفوذ الإيراني بدأت منذ عدة أعوام، وهي في بداياتها، تكاد تناظر سيناريو المواجهة ضد النظام العراقي السابق، لكن نهاياتها سوف تكون مختلفة تماماً، حيث يتزايد التخويف من مخاطر المشروع النووي الإيراني، الذي يعده الإسرائيليون مشروعاً عسكرياً، يهدد بزوال كيانهم في فلسطين، وقد جرى تسويغ فرض عقوبات اقتصادية مشددة ضد إيران، تشمل فرض حصار مالي ونفطي وعسكري، وذلك ما ظلت تتحداه إيران، عبر طرح حلول دبلوماسية، وعروض تفاوضية، إلى جانب التلويح برد فعل قوي ومدمر، إذا ما تعرضت لعدوان مباغت.
لكن من الناحية المقابلة تبدو التحضيرات الإسرائيلية مكتملة، منذ سنوات عدة، ولا ينقص إطلاق الصواريخ، سوى ضوء أخضر غربي، وبالأخص غطاء أميركي، رغم التردد الواضح من قبل الإدارة الأميركية، خشية التورط في نزاع، لا تبدو نهايته معروفة، ومحاولة كبح الاندفاع الإسرائيلي، وهو ما كشفت عنه المشاورات العسكرية الأميركية- الإسرائيلية في أواخر عهد الرئيس السابق أوباما، لكن تهور ترامب قد غيّر قواعد اللعبة، كما يبدو، من خلال تسارع الأحداث نحو المواجهة الثأرية المفتوحة!
 العراق أصبح في قلب معادلة الصراع، رغم محاولته الإفلات من خيارات صعبة غير مستعد لها حالياً، في ظل هشاشة الأوضاع الداخلية، ولا شك أن رد الفعل الإيراني على عملية مطار بغداد كان حكيماً، وقد ثبت أن إيران، حسب أغلب التقديرات الاستراتيجية، لا تريد توريط نفسها ومعها المنطقة كلها في حرب شاملة تتمناها إسرائيل وأميركا منذ سنوات، وأن القيادة الإيرانية تبدو أكثر عقلانية أمام شخصية ترامب الهوجاء، وأن النظام الإيراني ما يزال يتمسك بمبدأين في هذه المواجهة: أولهما أن المشروع النووي سيظل سلمياً ليس عسكرياً، وثانيهما عدم المبادرة في شن الحرب، رغم الضغوط والاستفزازات المعروفة، ولكن؟