التحدي والتصدي في كتاب أبو الغيط «شهادتي»

آراء 2020/01/10
...

د. قيس العزاوي
 
كانَ احمد ابو الغيط وزيرُ خارجية مصر الاسبق الشخصية العربية المفضلة لوزير خارجية العراق السابق هوشيار زيباري وكنت قد شاهدت واستمعت الى ابو الغيط اثناء اجتماعات القمة العربية التي تعددت : دورية واستثنائية وطارئة، عندما كنت ارافق زيباري في هذه الاجتماعات باعتباري مندوب العراق الدائم في جامعة الدول العربية.. وقد كان الاحترام والاعجاب المتبادل بين زيباري وابو الغيط واضحا في امسيات العشاء في فندق ماريوت بالزمالك حيث حدثنا الاخير عن قرب صدور مذكراته عن سنوات ترؤسه للدبلوماسية المصرية (2004 - 2011). 
وقد عدت للقاء ابو الغيط عند توليه منصب الامين العام لجامعة الدول العربية برفقة الصديق العزيز الدكتور مصطفى الفقي، وبعد حين زرته من جديد في تشرين الاول عام 2016 في مكتبه اهداني مذكراته التي تقع في جزأين (شاهد على السلام والحرب وشهادتي) وقد قرأت باهتمام  بالغ المذكرات وما تضمنته من احداث خطيرة في تاريخ امتنا حتى انني كتبت عنهما عام 2019 مقالين: الاول قراءة في الكتابين نشر في مجلة “السياسة الدولية” بالقاهرة والثاني العراق في مذكرات ابو الغيط نشر في جريدة “الصباح” العراقية . 
وعند مطالعتي للمرة الثالثة كتاب “شهادتي” لاحظت الى اي حد يبدو ابو الغيط مولعاً بالتحديات اذ وجدته يدرج مواجهاته للتحديات في احد عشر فصلاً من كتابه.
فمن بداية الفصل الرابع ص 135 وحتى نهاية الكتاب ص 536 أي من الرابع وحتى الثالث عشر و ابو الغيط يكتب عن التحديات وبنحو متتال نجده يسمي عناوين فصوله: 
التحديات والاستجابة، الولايات المتحدة.. التحدي والتصدي، محاولة توسيع عضوية مجلس الامن.. مياه النيل التحدي ومحاولة التفاهم.. تحديات التقسيم، السودان.. تحديات الحفاظ على المكانة، مصر وافريقيا..  مصر وتحديات العالم العربي.. مصر وتحديات الاقليم.. تحديات توسيع اطر الحركة المصرية، مصر والعالم.. تحديات التسوية السلمية.. تحديات الـ 45 يوماً الاخيرة.. تحديات الماضي والمستقبل..  
عناوين منتقاة بعناية لقضايا مركزية نجد في صدارتها ارادة التحدي والتصدي التي يشهرها ابو الغيط، حتى خاتمة الكتاب جعلها ملخصاً لعدد من التحديات في الماضي والمستقبل .. إن ولع ابو الغيط بالتحدي جعله يخصص جميع موضوعات كتابه لبحث تحديات واجهت السياسة الخارجية لمصر وبمعنى مباشر واجهته هو شخصياً طيلة سنوات سبع. 
عند سؤالي للسيد ابو الغيط عن سر ولعه بالتحديات اجابني بأنه معجب جداً بنظرية التحدي والاستجابة للمؤرخ البريطاني أرنولد توينبي ( 1889– 1975).. وتوينبي هو من اشهر المؤرخين في القرن العشرين.
أهم أعماله موسوعة “دراسة التاريخ” المكونة من اثـني عشرَ مُجلَّدا أمضى في تأليفها أكثر من اربعة عقود ، ويُفسِّرُ تُوينبي نشوءَ الحضارات الأُولى بالتحدي الذي واجه كيان الانسان لكي يبذل جهودا مضاعفة تمكنه من التغلب على هذا التحدي لبناء الحضارة. 
وتتجسد نظريَّة توينبي “التحدِّي والاستجابة” عندما تتعرض الشعوب لهزيمة كبرى، فإما ان تصاب بصدمة تنقلها الى الماضي بنحو مرض أو ان تتقبل التحدي وتقوم بالاستجابة الايجابية التي يسميها ابو الغيط “التصدي”.. وقد واجهت مصر تحديات كبرى اخطرها هزيمة حزيران 1967 وكانت امتحانا لقدرات شعبها وطاقاتِه، وقد نجح المصريون في تجاوز الفجوة ما بين القدرة والطموح بترسيخ ثقافة التخطيط الستراتيجي ومتابعة بذل الجهود المضنية، وقد استوجب ذاك التحدي تصديا واستجابة فكانت حرب تشرين عام 1973 وعبور القناة. 
واذا اردنا ان نذكر ابرز التحديات التي تضمنها كتاب “شهادتي” فلن نغفل التحدي الاول الذي واجهه ابو الغيط شخصياً ومهد له السبيل لتولي منصب وزير خارجية مصر في ما بعد وهو كما ورد في ص135 محاولته “معرفة ودراسة النظام السياسي الاميركي والسياسة الخارجية الاميركية” ونظراً لعمله بوفد مصر في الامم المتحدة فقد اتاحت له اقامته على مدى ثلاث عشرة سنة وولعه بتحدي العقبات مثل هذه المعرفة التي جعلته يمتلك القدرة على التعامل الشامل مع اشكالية العلاقات المصرية الاميركية بجميع تفرعاتها. 
والتحدي الثاني الذي كان يؤرق مصر وسياسييها هو أن الولايات المتحدة تتوقع او تأمل مناصرة مصر لها مثل محاولة ربط مصر بشبكة التصرفات والاجراءات الاميركية في غرب آسيا والعراق.. والمشاركة في ائتلاف القوى المحاربة في افغانستان والعراق وهذا ينم - كما يقول ابو الغيط- عن عدم تفهم الاميركان لاوضاع مصر وحساسياتها في عدم ايفاد قوات مصرية الى ارض اسلامية للقتال وبخاصة لمساعدة قوى غربية واطلسية.
ويأتي هنا تحد آخر هو مواجهة الضغوط الاميركية والاسرائيلية لتطويع السياسة الخارجية المصرية الذي تصدت له مصر في الامم المتحدة للدفاع عن امنها القومي في موضوعات مثل منع الانتشار النووي واسلحة الدمار الشامل والتصويت لقرارات الامم المتحدة المعارضة لسياسة الاحتلال
الاسرائيلي.
وهناك تحدي التقارب من الحلف الاطلسي باعتبار مصر الدولة العربية الكبرى التي تطل على المسارات الستراتيجية التي يهتم بها الحلف.. وكان رأي ابو الغيط كما ذكره للرئيس مبارك”اننا لا يجوز ولا يمكن ان نثق في الكثير من توجهات الحلف الذي يحاول ان يكون الذراع العسكرية للامم المتحدة او على الاقل المطبق والمنفذ لمفاهيم مستحدثة في السياسة الدولية... ويضيف ابو الغيط” من المهم ان تعرف اميركا والقوى الغربية ان انفتاح القوى العربية في البحر الابيض المتوسط وشمال افريقيا هو قرار في القبضة المصرية “.
ويضع المؤلف قضية توسيع عضوية مجلس الامن في موقع التحدي ويتصدى لها مشيراً الى محاولة بعض القوى الدولية والافريقية اختطافها لتحقيق مصالحها، ويرى ان ذلك “ادى الى تنبيه مصر وتنبيهي شخصياً الى الاخطار التي يمكن ان يتعرض لها وضع مصر الدولي والاقليمي والافريقي اذا ما تم توسيع المجلس من دون اخذ التوازنات والمصالح العربية في اطارها الافريقي والآسيوي في الحسبان”ص192. 
وهناك أيضاً التحدي الوطني الكبير الذي يعتبره المسألة الاهم للامن القومي المصري وهو “مياه النيل” اهم ملفات الخارجية حينما كان وزيرا وطالب بان تتوحد جهود خبراء وزارة الري مع اجهزة الامن القومي وفي مقدمتها الدفاع والمخابرات العامة والتمسك بمصلحة مصر المعترف بها في اطار القانون الدولي.
تلك هي بعض التحديات التي واجهت مصر والعرب وتصدى لها بطريقته المتفهمة والعقلانية احمد ابو الغيط.