تفسير الصراع السياسي وصناعة الازمات في الشرق الاوسط بعيدا عن "سلطة العولمة" يبدو ساذجا، ومتعاميا عن حقائق كثيرة تدخل العولمة في صياغة اسئلتها، وموجهاتها. فالعولمة في هذا السياق هي قوة، ونظام وسوق وترسانات أسلحة ورموز فائقة للسيطرة، وهذه الخصائص تجعلها أكثر اندفاعا للانخراط في ما يُسمى بـ "النظام العالمي الجديد" والذي تقوده شركات أو دول أو بنوك عابرة للقارات، ولها قدرة على تنظيم وحوكمة شبكات النشاط ومايرتب عليها في سياق ممارسة السلطة.
شمولية العولمة تعني استعادة أكثر تنظيما لهيمنة "الرأسمالية" ولخلق استعمارات صغيرة، لكنّ ذلك لن يجعلها بريئة، بل ستكون أكثر توحشا، تُنتهك عبرها سيادات الدول، وتخضع المصالح الوطنية لصالح المصالح العولمية، فضلا عن أن العولمة ستربط النظام الاقتصادي الذي تصنعه بنظام عسكري للسيطرة، ونظام أمني للرقابة، وهذا ما يجعل توحشها السياسي والاقتصادي والأمني تهديدا ظاهرا أو خفيا للهويات والمجتمعات، ولكلّ القوى التي تعتاش على الانثربولوجيات الوطنية..
الحديث عن تاريخ العولمة ليس مهما، بقدر ما أن خطورتها واهمية ما تمارسه من عنف سيكمن في سياساتها التخريبية، وفي دعمها للارهاب العالمي، وفي تحويل المجتمعات الى قوة هائلة ومفتوحة للاستهلاك
، ولتغذية الغرائز، مقابل تهميش وتعطيل البرامج التي تخصّ التنميات الوطنية في المعرفة والتعليم والصحة والأمن والاشباع
، وبالاتجاه الذي يرسم مستقبلا لأدلجة الأمركة، ولتدويل المصادر والوسائط، بما فيها الوسائط الاقتصادية، وعبر علاقات يدخل فيها الجانب العسكري والامني لفرض السيطرة، مقابل دخولها الجوانب الاخرى الاقتصادية والثقافية والاعلامية والترويجية، وبإتجاه فرض ثقافة "الانسان ذو البعد الواحد" كما سمّاه هربرت ماركوز..
بين السيطرة والإرهاب
لا شكّ في أنّ العولمة كمفهوم تحمل معها صفات ايجابية، بوصفها مجالا مهما للتحوّل في الممارسة الاقتصادية، وفي تطوير المبادلات التجارية والمالية، وتنشيط ديناميكية التبادل السلعي والخدماتي والثقافي، لكنها كنسق حاكم تحمل معها أخطارا جمّة، لاسيما للمجتمعات التي لم تكتمل لديها حلقات النمو الاقتصادي والسياسي، وهو مايجعلها خاضعة لمهيمنات القوة العولمية بمستوياتها السياسية والاقتصادية والامنية
، والى ماتفترضه تلك المهيمنات من دخول في خنادق واتفاقيات تُبرر النزوع للدخول في مشاريع الحرب، وتحت يافطة حماية مصالح الولايات المتحدة والغرب السياسي، وربما الدخول في علاقات "سوداء" لحماية جماعات ارهابية معينة، وهذا ما حدث في افريقيا، وفي دول اميركا اللاتينية واسيا، وفي بعض الدول العربية ومنها العراق، فما كان لتنظيمات القاعدة وداعش أن تملك قوتها العنفية لولا الدعم الاميركي، واستخدامها كورقة للضغط على دول المنطقة، أو في تدويل الصراع والبحث عن الاسواق والثروات، أو في مواجهة الدول ذات السياسات المعادية للولايات
المتحدة.
إنّ علاقة العولمة بمصادر القوة هي الرهان على نزعتها الكونية، وعلى ماتفرضه من "تنصيب هووي" للذات المسيطرة، وأقصد هنا الذات الاميركية، والتي تعمل على بناء ستراتيجيات كبرى للسيطرة الدولية على الاسواق، لاسيما اسواق الاسلحة، والتكنولوجيا، وانظمة الاتصال والاعلام والمال، مقابل ابقاء اقتصاديات الدول الاخرى ضعيفة، ومصابة باعراض العجز
الاقتصادي.
مفهوم الارهاب هو مفهوم دولي وليس محليا، ورغم مرجعياته اللغوية، إلّا أن سياقه الاصطلاحي يرتبط بطبيعة المهيمنات التي تحاول وضع تداولية خاصة لهذا الارهاب عبر توظيفه سياسيا واقتصاديا وأمنيا، واحسب أن الحرب الافغانية في السبعينات قد كشف بشكل واضح عن الدعم الاميركي للجماعات المسلحة، وعن توظيفها في سياق الحرب، وفي سياق التعليم والادلجة والاعلام، وهو مايحدث اليوم ايضا عبر وجود علاقات مشبوهة بين مؤسسات مخابراتية اميركية وغربية مع الجماعات الارهابية مثل القاعدة أو داعش أو غيرها، وهو موضوع يدخل في سياق نظرية "قتل العدو" أو تحجيمه في حرب الارادات والسيطرات والاستحواذ على
العالم.
العولمة والإنسان الأخير
إذ كان العولميون يؤسسون أطروحاتهم على أساس صناعة النمط الجديد للتنظيم الاجتماعي، فإنّهم أيضا يُبشّرون ايضا بموت "الدولة الوطنية" وهذا الموت الافتراضي يعني ولادة القوة الراديكالية التي يمكنها ادارة العالم، والتلويج بفكرة "القرية الكونية" كما يُسميها ماكلوهان، أو فكرة المجتمع العالمي الذي تُديره الشركات المتعددة الجنسية، وهو مايعني تغيير وظائف الدولة، والهوية، والجماعة وحتى
الافراد..
"الإنسان الأخير" إنسان لا سيادة له بالمعنى السياسي، لأنّه سيكون جزءا من منظومة القرية والشركة والمؤسسة والبنك، وانه سيغادر الجماعة والملّة والأمة والطائفة، وسيكون خاضعا لتفاعلات ولعلاقات يحددها النظام العالمي الجديد، وهو مايعني انخراطه في وظائف جديدة، والتي ابرزها وظيفة الاستهلاك، والحلول في نظام عالي الخصخصة، بما فيها الخصخصة السياسية التي ستُديرها وتُنظمها حكومات تعتاش على التدفقات المالية، وعلى الاتفاقات والصفقات وعلى كل مايتعلق بالتجارة
العالمية.
مقولة "الانسان الاخير" هي قرينة مقولة "نهاية التاريخ" والتي تعني في الجوهر نهاية الانسان الايديولوجي، وبداية عصر الانسان الاستهلاكي الذي يؤمن بعولمة الديمقراطية والليبرالية
، وأنّ ماتحدّث به الفيلسوف الاميركي فرانسس فوكوياما ينطلق من المرجعية الثقافية للسيطرة الاميركية، ولأطروحاتها عن القوة، بما فيها "القوة الليبرالية" التي فرضت أنموذجها بعد نهاية الدولة الشمولية في الاتحاد السوفيتي السابق، ونهاية بطلها "الشيوعي" المُبشّر
بالاشتراكية.
لعبة النهايات التي طرحها فوكوياما، هي ذاتها الفكرة التي طرحها هيغل 1770- 1831، والتي استلهم فيه الروح الالمانية كمصدر للقوة، وللتعبير عن انسانها بنسخته البسماركيّة، لكن منظور فوكوياما يختلف عن ماهو فلسفي عميق في أطروحات هيغل، ومن منطلق سياسي و "ايديولوجي" بالمعنى الهيغلي الذي يقرّ بثنائية العبد والسيد، والنزعة الى الاعتراف بالقوة، وهو ما تتأسس عليه العولمة التي تقوم على اساس الاعتراف بالسيطرة والقوة وفرض النهايات الكبرى على انسانها الاستهلاكي المغترب والحامل وعيه الشقي واستلابه الى عالم تغذيه اميركا بالحروب والاسواق
المفتوحة...