العلامة مصطفى جواد

ثقافة شعبية 2020/01/19
...

زاهد البياتي
 
 
 نستذكر في مثل هذه الأيام أيقونة العراق الموسوعية وحارس اللغة العربية العلامة الدكتور مصطفى جواد بمرور خمسين عاما على رحيله والذي أغمض عينيه يوم 
(17 /12/ 1969) وغاب جسده الطاهر وصار ترابا عند رب كريم ولكن صوته الرخيم ما زال يصدح في الأجيال بـ (قل ولا تقل) على الرغم من اليوبيل الذهبي لرحيله .
((أبالغ اذا قلت : مصطفى جواد جعلني أعشق العراق أكثر، وهو عاشق كبيرللعراق  ، فقد تعلمت منه كيف احب العراق )) 
بينما يصفه رئيس المجمع العلمي العراقي الاسبق الراحل الدكتور عبد الرزاق محيي الدين : 
 (( مصطفى جواد رجل في مجمع ومجمع في رجل .. لقد أولدك العراق فكنت من انجب ابنائه راعيا لطامس اثاره وكاشفا عن دارس اخباره وتبنتك العربية فكنت من اكرم ابنائها، برا بها،  وحدبا عليها ، 
بل كنت من صفوة الصفوة ولب اللباب)).
وكتب عنه العلامة الراحل حسين علي محفوظ:
(( كان مصطفى جواد مرآة تاريخ بغداد، ومرآة خطط بغداد ويعد من فلاسفة النحو العربي، وهو من أعلام المؤرخين وأكابر المحققين. لا بل هو في الطراز الأول في العربية والتحقيق والتاريخ، استاذ الكل واليه تنتهي المعرفة في اللغة والتاريخ في 
عصره )) .
عن تميز شخصيته تحدث زميله شيخ الوثائقيين العراقيين الراحل د. سالم الألوسي قائلا :
(( لم تجتمع في اي شخصية عراقية، كما اجتمعت فيه هذه الصفات كمؤرخ وأديب وعالم في اللغة وعالم في الفلكلور ، وعالم في البلدانيات .. هذه هي التي ميزت مصطفى جواد وجعلته مميزا من بين الشخصيات العلمية والأدبية ليس في العراق فحسب وانما على مستوى الوطن العربي.. لم يلمس اي فرد من اصدقائه ومحبيه اي ميل الى اي طائفة ، المسيحيون يحبونه ،اليهود ،الشيعة ، السنة ، الأكراد يدينون له بالإكبار، وبالإعجاب المطلق ، 
لأنه يمثل الشخصية الوطنية 
العراقية )) .
في حين يصفه الراحل الدكتور علي جواد الطاهر بالكنز الضائع !:
 (( أمّا مصطفى جواد فليس كنزاً بهذا المعنى المادي، وبهذا المفهوم 
 
 
 
 
 
الضيّق، إنّه كنز ضاع من دون أن يستثمر، وتبدد قبل أن يستنفد. لقد ذهب الرجل وذهب الكنز معه، ولا يمكن في هذه الحال ردّ الفائت وتعويض الخسارة )).
مصطفى جواد في مذكرات الدبلوماسي نجدة فتحي صفوة .. 
في مذكراته “ التي نشرها شقيقه نجيد فتحي صفوة مؤخرا  يشير الدبلوماسي الراحل نجدة فتحي صفوة الى دماثة الخلق والشخصية اللطيفة والتميز بعذوبة الحديث وروح النكتة والتعليقات الذكية عند مصطفى جواد اذ يقول في سياق مذكراته :
(( توطدت علاقة الدكتور مصطفى جواد مع موظفي السفارة لكثرة تردده عليهم إذ كان يقضي معهم سويعات يمتعهم فيها  بأحاديثه وتعليقاته الذكية ، فاذا انتهى الدوام خرجوا معا لتناول  الغداء في احدى المطاعم.... كنت حينها قد انتميت الى معهد الدراسات الشرقية في جامعة لندن وشرعت في اعداد أطروحة في أدب المهجر فصرت انتهز فرصة زيارة  د. مصطفى جواد لنا لأطلعه على ما اكتبه من فصولها وافيد من ملاحظاته وآرائه .. وخلال الأيام التي يزور فيها السفارة كان يقف وسط الغرفة ، او يقطعها جيئة وذهابا بخطوات قصيرة ويقف أحيانا متكئا على احد المكاتب ، فيحدثنا حديثا عذبا في شأن من شؤون الأدب او في احداث العالم ، ويقارنها بما يماثلها من احداث التاريخ مستخرجا منها العبر او يعود للحديث عن السياسة او يطلق عليها النكات التي كانت طابعه الملازم في حديثه ، الا انه لم يضمنها كتاباته - مع الأسف – اذ اتسمت بالجد ولم تنعكس شخصيته اللطيفة عليها ، من جملة ذلك تعليق لطيف اطلقه د. مصطفى جواد اثر حادث وقع لفراش إنكليزي يدعى ووكر وكان هذا حريصا على واجبه، وبينما كان الدكتور مصطفى جواد في زيارتنا ذات يوم ، علمنا بأن ووكر سقط فاقد الوعي في الطابق السفلي من مكاتب السفارة ، حيث كان يقيم ، فهرعت اليه ووجدته ممددا ارضا بقامته الطويلة ، وقد اصفر وجهه وجحظت عيناه وكانت زوجته الى جانبه تبكي ،عندها تذكرت أن الدكتور” ماكس ماكوفسكي” البولوني الجنسية جاء في زيارة للسفير ، اذ كان طبيبا للملك الحسين بن علي ، ملك الحجاز السابق ثم جاء الى العراق وأصبح من أطباء العائلة المالكة ، وكانت له في بغداد شهرة واسعة وتكتظ عيادته الواقعة في شارع المتنبي بالمراجعين ، الا انه لم يكن يحسن التحدث باللغة العربية ، واسلوبه بالكلام مضحك ولا يفرق بين المؤنث والمذكر ولحراجة الموقف طلبت مساعدته فنزل الى السرداب مسرعا ، وعندما عاد قال وهو يهز رأسه “ ماتت ..من صك ماتت “ بتاء التأنيث وعند سماعي الخبر عدت الى غرفتي متأثرا فوجدت زميليَ احمد كاشف الغطاء وخليل إبراهيم ومعهما الدكتور مصطفى جواد  لا يزالون مستمرين بالحديث وسألني الجميع ما الخبر ؟فرويت لهم ما حدث ثم قلت ان الدكتور ماكس يقول انه “ ماتت.. من صك ماتت “ ويقصد انه مات حقا ، فغط الجميع بالضحك لصفة التأنيث قال بنبرته ، على الرغم من أسفهم لما حدث .....اما الدكتور مصطفى جواد فقال حكمة
 الدكتور مصطفى جواد المعروفة : لا تضحكوا كثيرا ! فقد يموت 
المرء ضاحكا ! وهو ما يردد بالعامية عن الضحك الكثيرمن الأعماق (يموت من الضحك )! كان ذلك التحذير للتوقف عن الضحك تعليقا نردده كلما نغص بالضحك لنكتة نسمعها ونتذكر من خلالها الدكتور مصطفى جواد...). 
الحديث عن شخصية مصطفى جواد يطول ويطول ولا ينتهي في نقطة ولا يتوقف عند حد ، لذا أحببت ان اجدد دعوة شيخ المؤرخين العرب الراحل د. حسين امين الى تكريمه من  قبل الدولة والشعب قال وهو يصفه . 
اليوم بعد خمسين عاما على رحيل واحد من رموز النهضة في العراق ، ترى هل استذكرناه بما يليق بمكانته وقامته العلمية؟.