تخطي الأزمات في صناعة السلام

آراء 2020/01/19
...

أماني النداوي
 

شهد التاريخ، منذ بدء الخليقة،  حروبا دموية متكررة، وكانت أرض الرافدين من أكثر مناطق العالم تعرضاً للغزو الأجنبي إذ دارت في مهد الحضارات معارك طاحنة حول الهيمنة والثروة والسلطة، وقد عاصر العراق في تاريخه الحديث، خلال قرن واحد، أكثر من خمسة حروب إقليمية ودولية رهيبة، وهي تجربة مريرة حفرت ذكريات قاسية في وجدان شعبه، وتمظهرت في نماذج من السلوك الفردي والجمعي في ما يمكن أن نسميه، وفق نظرية فرويد، بـ(خزان الألم) المتفجر من أعماق اللاوعي!
 يفترض أن يكون العراق، في ظل الديمقراطية، قد تخلص من تلك الصراعات والحروب، وهو يسعى لمعالجة نتائجها وآثارها المؤذية، وقد استبدل الصراع بالتداول السلمي للسلطة واعتمد لغة التفاهم والحوار وتبادل المصالح، في ظل عالم يتجه نحو بناء ركائز راسخة للسلام والأمن الدوليين.
لم يعد صنع السلام  قراراً محليا أو فرديا، فقد صاغت البشرية تجاربها الأليمة في مواثيق وطبقتها من خلال هياكل عالمية وإقليمية، من أبرزها منظمة الأمم المتحدة ومنظمات حقوق الإنسان التي تضمن رعاية الحقوق الأساسية للإنسان، وفي مقدمتها حق الحياة والأمن والسلام، وينبغي أن يكون العراق اليوم في مقدمة الدول التي صادقت على تلك التشريعات وانضمت إلى المنظمات الدولية، وشاركت في مؤتمراتها وجهودها الحثيثة لإنقاذ المجتمع الإنساني من ويلات الحروب والدمار.
 يقول ريموند آرون في كتابه (الحرب والسلام بين الأمم): إن ثمة ثلاثة أنواع من السلام، آخرها سلام الإمبراطورية، أي عندما تنجح قوة عظمى في إخضاع بقية الدول والأقاليم الأخرى وتجبرها على أن تدور في فلكها، ويضرب مثلاً حول(السلام الروماني) الذي ساد نحو أربعة قرون، وقد كان يعد، حسب وصفه، الرمز المثالي لسلام الإمبراطورية.
 في العالم المعاصر، هناك من يبشر بنهاية التاريخ من خلال الانفراد الأميركي، في القرن الحادي  والعشرين، ولكن من الصعب أن تنفرد قوة عالمية لوحدها في صنع السلام، مهما كانت قدراتها الإقتصادية والتقنية والبشرية والتسليحية، وأن جهود السلام تقتضي المشاركة والتفاعل والتوافق حول خطوط المصالح وعناصر النفوذ وتوزيع الأدوار بين الشركاء كافة من أجل عالم جديد، بلا ظلم أو هيمنة أو احتلال أو حروب مدمرة!  وفق هذه الرؤية الدولية المتنامية، في ظل عصر الاتصالات والمعلومات وحوار الثقافات، عرف العالم مزيداً من التجارب حول منع وإنهاء النزاعات، وارتفاعاً في نسبة نجاح عمليات صنع السلام، وذلك بالمقارنة مع القرن العشرين وما قبله، فهناك عدد أكبر بكثير من الصراعات التي يجري التفاوض بشأن حلها وإنهائها.
وعلى سبيل المثال، تضاعفت عمليات صنع السلام ثلاث مرات، خلال العقود الثلاثة الماضية، لتمتد إلى أكثر من 30 مكاناً في جميع أنحاء 
العالم. وقد أصبح الوسطاء أفضل في التفاوض على صفقات السلام التي يمكن أن تتماسك وتدوم، كما أصبحت الأمم المتحدة أكثر قدرة في مجال حفظ السلام. يمكن أن  نلاحظ الاتجاهات العالمية المتزايدة نحو السلام من خلال:
1 - زيادة الاعتمادية المتبادلة والتعاون بين الدول، لا سيما من خلال التجارة والتكنولوجيا.
2 - تطور أشكال أفضل للحكم، من خلال وجود المزيد من الديمقراطيات والحملات المناهضة للفساد.
3 - انخفاض الحروب من النوع المدفوع بالآيديولوجيات والمعتقدات.
4 - الاستخدام المتصاعد لتكنولوجيا المعلومات والشبكات والوسائل البصرية، مثل كاميرات الهواتف المحمولة التي تقوم بتسجيل أعمال العنف، ثم استخدام التسجيلات لإدانة الجناة و إلحاق العار بهم.
الاحتجاجات الشعبية المستمرة منذ شهور، في العراق، وما رافقها من تدخلات وأزمات إقليمية ودولية كشفت أن الديمقراطية الناشئة في خطر، وأن الانتقال من مرحلة الحروب الى مرحلة السلام يحتاج الى قيادات كفوءة وقرارات شجاعة تعمل على تعزيز القدرات الوطنية وإرساء قواعد السلام بين الأفراد والمكونات المجتمعية والسيطرة على السلاح، ونشر الوعي حول فرص السلام وفوائده، وتعزيز التنمية المستدامة وتنظيم علاقات حسن الجوار، واستنباط قيم المحبة والتسامح من جوهر الرسالة الإسلامية الخالدة التي تدعو إلى
السلم والسلام بين الإنسان والكون، وبين الإنسان ونفسه، وبين الإنسان المسلم والآخر، مهما كان جنسه ودينه 
ومعتقده.