أطلق هذه العبارة رئيس وزراء بريطانيا -مكميلان- في غمرة مفاوضاته مع الجانب السوفيتي السابق برئاسة خرتشوف- في قضية سميت حينها أزمة الصواريخ في برلين الغربية التي هددت بلدان حلف وارشو في الصوب الشرقي لقارة أوروبا في سنة 1959. فكانت الورقة التي كان خرتشوف يضغط بها على الطرف الغربي هي ورقة العراق، وقتها كان اليسار في العراق مهيمنا على الشارع، وتهديد خرتشوف الذي كان يشهره بوجه الغرب يتمثل في دعم اليسار العراقي للسيطرة على زمام الحكم في العراق
واجتياح منابع النفط في منطقة الخليج، الذي كان يمثل شريان الحياة الاقتصادية لكل العالم الغربي. كان خرتشوف يمارس تهديده هذا لمكميلان من دون أن يأخذ رأي أي عراقي على
الإطلاق.
العراق اليوم يكتسب الخطورة نفسها في غمرة صراع طرفين دوليين يفضلان أن تكون أرض العراق ميدانا لصراعهم من دون الأخذ
برأيه.
لم يستقر الوضع السياسي في العراق طيلة العهود الجمهورية باستثاء سنوات جدا قليلة، فكان هدوءا نسبيا يشبه السكون الذي يسبق العاصفة، فكانت سنوات العقد الستيني قد تميزت بانقلابات عديدة يخطط لها من قبل إرادات خارجية، وحروب دموية في منتصف السبعينيات، ثم حرب ضروس طويلة مع إيران لثماني سنوات بعدها بسنتين اجتياح العراق الكويت ثم عقوبات طويلة امتد حتى الاحتلال في العام
2003.
كان العراق محاطا باهتمام بالغ من قبل مراكز القرار الأميركي في السنوات الأخيرة من ثمانينات القرن الماضي، وحصرا في العام1989، فاختير العراق كعينة لتطبيق النظام العالمي الجديد، الذي تفردت بتعينه وتسويقه أميركا بوصفه الطرف الأساس في الحرب الباردة مع الاتحاد السوفيتي السابق، فبعد تفكك الأخير أصبح من الضروي تدشين مفاهيم النظام الجديد عالميا، وكان العراق يتمتع بكل المواصفات المطلوبة، فتمت دراسة الموضوع بكل عناية من قبل ستراتيجي البنتاغون، ممن يسمون باليمين الأميركي الجديد في ذروة انتصار كبير على ايديولوجيا المنظومة الاشتركية، فكانوا تحت خيلاء فوز منحهم دافعا قويا في ابتكار مفاهيم كونية جديدة، كالشرق الاوسط الكبير، والفوضى الخلاقة، والديموقراطية الأميركية. كل هذا كان في أجواء قطب دولي وحيد هو
أميركا.
أمّا العراق فكان بلدا ثريا بنفطه، يحتل جغرافية بالغة الأهمية، خرج توا من حرب طويلة، يبدو منهكا، ويرزح من مشاكل اقتصادية هي من تداعيات الحرب، وشعبه على مستوى من الثقافة تتقبل الديموقراطية،على رأسه دكتاتور متهور لا يفتأ يقدم المسوغات لاحتلال بلده، كما أنه لا يتورع عن الهجوم على أي بلد يجاوره، ليكون هذا مسوغا لتحشيد العالم ضده، ناهيك عن شكوك في حيازة أسلحة دمار
شامل.
كانت الماكنة الستراتيجية الأميركية قد سوغت وروجت موضوعة تحرير العراق، تأطرت لاحقا في قانون صدر من الكونغرس في سنة 1998، ثم ابتدأت قصة تحرير العراق لتنفذ في العام 2003.
الخطوة الأولى لإدارة العراق تمثلت باختيار حاكم مدني أميركي، ثم تبدل مفهوم التحرير الى احتلال وفقا لطلب من الأمم المتحدة ليتحمل الجانب الاميركي المحتل مسؤولياته بعد حين، تمثلت في تعين حاكم مدني. شرع بريمر بتشكيل مجلس الحكم بصيغة المحاصصة للمكونات العراقية، ثم توالت الخطوات لاحقا في كتابة الدستور ثم انتخابات نيابية ---الخ
ومع ذلك ظلت حالة عدم الاستقرار تتفاقم سنة بعد أخرى، بظهور مقاومة الاحتلال، وحرب أهلية، وبروز بؤر إرهابية مرعبة ابتدات بالقاعدة التي تمددت في مناطق عديدة على الخريطة العراقية بدعم وتمويل خارجي مدعية مقاومة الاحتلال. في سنة 2011 انسحبت القوات الأميركية من العراق باتفاق مع الحكومة العراقية المزعزعة، فحصل فراغ سياسي أمني، استطاعت ايران، مستفيدة من الأوضاع الجديدة في العراق، أن تحقق حضورا لها مدعوما من قبل أحزاب تربطها علاقات قديمة معها، فكان تأثيرها واضحا في حراك العملية في العراق، عزز ذلك لاحقا ودعم وجودها تداعيات الحرب مع تنظيم داعش الإجرامي الذي احتل أراضي تعادل ثلث مساحة العراق في سنة 2014، وفي الوقت نفسه دعيت أميركا للمشاركة في هذه الحرب ضد داعش وفق اتفاقية
أمنية .
الأحداث الأخيرة في تبادل الضربات بين الطرف الإيراني والأميركي، جعلت من العراق ميدانا لحرب بينهما لا شأن له بها، فهو خارج معادلة الصراع بين الجانبين منذ البداية، ولا رأي له فيما يحصل وهو يشبه الى حد ما الوضع الذي حدا بخرتشوف أن يشهرالورقة العراقية بوجه مكميلان في العام 1959، من دون ان يأخذ رأي العراق بعين
الاعتبار.