مهلة وطن

آراء 2020/01/22
...

حمزة مصطفى
عبارة من مفردتين (مهلة وطن)، لكنها تختصر التاريخ والجغرافية معا. الجغرافية بوصفها المكان الذي ينشأ في ربوعه الوطن الذي هو شعب وأرض وسيادة وحكومة، والتاريخ الذي هو مجموع انجازات ومنجزات وآثار وتراث ومعالم وعوالم وشواخص هذا الوطن. بين التاريخ الموغل بالقدم في "وطن" مثل العراق وبين الـ "المهلة" التي يراد منحها لإعادة بناء هذا الوطن نقف الآن على مفترق طرق.
لماذا نقف على مفترق طرق؟ الجواب لأن الناس خرجت تتظاهر بعد أن وجدت الأداء السياسي للطبقة السياسية التي حكمت البلاد والعباد بعد عام 2003 غير منصف. هل هذه الإجابة كافية أو شافية للغليل؟ لا بالتأكيد. إذن لا بد من البحث عن الأسباب الموضوعية لهذا الانفجار الجماهيري الذي ترتبت  عليه حتى الآن تضحيات جسيمة لا تنسجم مع عنوان الحراك وهو "التظاهر السلمي".
المشكلة تتعلق في كيفية بناء الدولة العراقية الحديثة بعد العام  1921، وفي إطار مفهوم المواطنة الذي يجعل الجميع يعيشون في وطن واحد له تاريخ معروف وجغرافية موصوفة، بدءاً من الملك فيصل الأول رحمه الله مرورا بكبار الكتاب والمؤرخين وعلماء الاجتماع ممن كتبوا عن تاريخ العراق الحديث في عهوده الملكية والجمهورية من أمثال علي الوردي وحنا بطاطو وحسن العلوي وكمال مظهر أحمد وسواهم لم يتمكنوا من الاتفاق على مفهوم جامع مانع للمواطنة العراقية.
لذلك جاءت كتاباتهم سواءً في إطارها التشخيصي أو الوصفي أو التحليلي قائمة على أساس محاولة جمع المتناقضات بين ما هو سياسي واجتماعي فضلا عن الخلافات والتناحرات والمشاكل والإشكاليات التي رافقت بناء تجربة الدولة العراقية طوال ثمانية عقود من الزمن. بعد العام 2003، حين احتلت الولايات المتحدة الأميركية العراق، لم تكتف بإسقاط النظام السابق بالإتفاق مع قوى المعارضة العراقية التي يفترض أنها البديل الديمقراطي عن نظام حكم شمولي، بل أسقطت الدولة العراقية.
البديل الديمقراطي لم يكن بمستوى تحدي بناء دولة جديدة من الصفر. الطبقة السياسية التي حكمت البلاد بدءاً من وصفة مجلس الحكم الفاشلة بامتياز مرورا بالتجارب الديمقراطية التي تلت وقوامها الانتخابات وتشكيل الحكومات وتداول السلطة اهتمت بالشكليات الديمقراطية وتركت الجوهر الذي لم يكن ديمقراطيا، وعلى كل ا
لصعد. 
حرية الرأي والتعبير والتظاهر السلمي الذي أفرد له الدستور العديد من المواد الجيدة، هو أبرز ما تفتخر به الطبقة السياسية وهذا صحيح. لكن حين خرجت التظاهرات الجماهيرية في الأول من تشرين الأول الماضي وحتى اليوم لم تخرج لأنها تحب التظاهر المكفول دستوريا، بل خرجت بحثا عن وطن بدا لها مفقودا، بدءاً من الخدمات الى البنى التحتية الى المشاركة السياسية الى السيادة الى الاستقلال والابتعاد عن  النفوذ الإقليمي والدولي.
الديمقراطية بحد ذاتها ليست إنجازا، بل هي وصفة في الحكم قد تكون ناجحة أو فاشلة. الإنجاز الحقيقي هو كيفية تجسيد مفهوم المواطنة الذي يضمن حق الجميع في وطن واحد بغض النظر  عن أية خلفيات عرقية أو دينية أو مذهبية أو أيدولوجية أو سياسية. الباحثون عن وطن خرجوا من أجل ذلك، والمهلة التي منحوها للطبقة السياسية تندرج في سياق ما قدموه  من تضحيات تكفي لبناء أوطان لا وطن واحد.