صوت النجف الأشرف

آراء 2020/01/24
...

جواد علي كسار
انطباعي من دون أن أجزم، أن مقدمة الطبعة الثانية لكتاب «اقتصادنا» هي السبب الأبرز من وراء منع طباعته في العراق. ولا يعود ذلك فقط إلى مهاجمة السيد الصدر القومية العربية، وأنها محض رابطة تأريخية ولغوية، لا يمكن من خلالها تأسيس دولة وتنظيم مجتمع وبناء اقتصاد وتشييد نهضة، لأنها ببساطة ليست فلسفة أو قاعدة حضارية، مثلها تماماً كمثل الاشتراكية العربية التي استنجد بها دعاة القومية العربية لملء الفراغ، فوضعهم الصدر في هذه المقدمة بين خيارين؛ إما أن يكونوا صادقين وعندئذ لن تكون هذه الاشتراكية أكثر من نسخة عن الاشتراكية العالمية، وقد ذيلها دعاتها بـ«العربية» زيفاً وخداعاً وتجنباً لحساسية الشعوب، أو أن يكونوا كاذبين، وهذا هو المآل الذي انتهت إليه فعلاً هذه التجارب بعد عقود، إذ لم ينجح بلد واحد من بلدان العالم العربي، ببناء اقتصاده من خلال الاشتراكية العربية! لكن مع ذلك لا أعتقد أن هذا هو السبب الوحيد، بل الأخطر في هذه المقدمّة حديث الصدر عن التبعية، وأن العالم العربي والإسلامي راح يعيش بعد مرحلة الاستعمار العسكري المباشر، ثلاثة أشكال متعاصرة من التبعية؛ هي التبعية السياسية، والتبعية الاقتصادية، والتبعية في المنهج. وإذا كانت الأولى والثانية معروفة مفهوماً وحدوداً ومجالات، فإن الأخطر هي الثالثة، فقد يستقلّ البلد سياسياً، ويحرز استقلاله الاقتصادي، لكنه يبقى أسير الآخرين في الفهم والمنهج وطريقة التفكير.أعرف تماماً أن الصدر ليس منظّراً اقتصادياً أو سياسياً في مفهوم التبعية، حتى ننتظر منه التفاصيل، بل هو عالم دين يكتفي بالمفاتيح المعرفية غالباً. لكن بشأن التبعية وألوانها وأشكالها وحقولها، شهد العالم العربي من ثمار عقول مفكريه ولا يزال، تنظيرات علمية وموضوعية عميقة، منها أعمال المفكر سمير أمين في كتابه «التطوّر اللامتكافئ» وغيره، حيث ذهب إلى نظرية النمو اللامتكافئ ما دامت العلاقة تقوم على حدّي المركز والأطراف، إذ سيعني ثراء المركز الرأسمالي، فقراً مستديماً للأطراف. أبدع جورج قرّم في تحليل أحد أبرز جوانب هذه التبعية، في كتابه المعروف: «التبعية الاقتصادية»، ومثله فعل عادل حسين لكن بالتركيز على مصر، من خلال كتابه المرجع بجزأيه: «الاقتصاد المصري من الاستقلال إلى التبعية» من دون أن يعني ذلك حصر التبعية بالجانب الاقتصادي وحده، فقد كتب كثيرون عن التبعية الثقافية والمعنوية والروحية، كما نقرأ في كتاب محمد جلال كشك: «قراءة في فكر التبعية» و«قضايا التبعية الإعلامية والثقافية» لعواطف عبد الرحمن و«التبعية الثقافية» لعبد العظيم محمود الديب و«ثمن التبعية» لديترش بنهوفر، وهي مقاربة للمفهوم بالمعنى الإنساني. وإذ بدأنا بالنجف الأشرف مع السيد الصدر، فإن الصوت المرتفع لهذه الحاضرة هو المناسبة؛ بل إذا شئت الدقة، فهو الحدث. فقد تحدّثت المرجعية الجمعة الأخيرة عن استقلال العراق وسيادة قراره السياسي، كمقدمة لا بدّ منها لكلّ شيء؛ استقلالاً يحفظ وحدة البلد أرضاً وشعباً، ويحمي نظامه وكيانه، ويرسم هويته ولون خياراته في الداخل، وعلاقاته بالخارج، كلّ ذلك بمعيار جليّ واضح، هو مصلحة البلد من دون أي اعتبار آخر، وبمرجعية تؤطّر هذه العناصر كافة؛ عنوانها الشعب كمصدر للشرعية. بنقاء ووضوح وعبارات مُباشرة، رفضت المرجعية تدخلات الآخرين جميعاً، من حول العراق وفي الإقليم والعالم، وضربت للمرة الألف كلّ الذرائع التي يحتمي بها الآخرون ويتسترون بها؛ أيديولوجية كانت أو دينية أو اثنية أو مزاجية أو خيانية، ويتخذون منها غطاءً لتدخلات الأغيار والغرباء!