الحياد العراقي في نزاعات المنطقة

آراء 2020/01/24
...

صادق كاظم
 
يعيش العراق حاليا في وضع سياسي دقيق في عتمة احتدام التجاذبات الإيرانية –الأميركية التي تلقي بظلالها عليه وسط محاولات عراقية واضحة نحو التمسك بمنهج وسطي يقوم على إعادة التموضع باتجاه تقدير المصالح العراقية تجاه كلٍّ من طهران وواشنطن. 
بالتاكيد، العراقيون لا يرحبون بالمزيد من النزاعات في المنطقة، بل يحاولون تبريد هذا النزاع المتأجج الذي تصاعد مؤخرا بعد إقدام واشنطن على اغتيال الجنرال قاسم سليماني وما تبعه من ردّ فعل إيراني مدروس من خلال قصف  صاروخي لقاعدة عين الأسد غربي العراق من دون إلحاق الأذى بالجنود الأميركيين.
إرضاء الطرفين الأميركي أو الإيراني، أحدهما على حساب الآخر، أمر ليس صحيحا في الحسابات الستراتيجية العراقية، لا سيّما أنهما يمتلكان العديد من أوراق التأثير على الوضع العراقي. لكن الذهاب الى سياسة الحياد والعمل على تقريب وجهات النظر والانضمام الى جهود الدول الأخرى في المنطقة التي تشاطر العراق هموم ارتفاع منسوب النزاعات والتوترات فيها ، ممّا ينعكس سلبا على الأمن والاستقرار فيها يمثل المنهج الأقرب الى الواقعية في التعامل مع أزمة تعد الأخطر في تاريخ المنطقة.
إنّ تفهم المصالح العراقية وحدود الإمكانيات المتوفرة للمناورة وتوظيف العلاقات مع الجانبين الاميركي والإيراني لصالح  تجنب تحويل العراق الى ساحة للنزاع، يمثل الهدف الأهم لصاحب القرار العراقي، إذ إن أيّ نزاعات أو حروب سيكون العراق الأقرب من غيره من دول المنطقة ليكون ميدانا للنزال والصراع والحرب، وهو ما سينعكس سلبا وسيشكل وضعا كارثيا على البلاد بأسرها.
إنّ الاقتراب من الحرب كان واضحا خلال الأيام التي تلت الاغتيال، والتهديدات المتبادلة التي أطلقها المسؤولون الأميركيون والإيرانيون، كانت بالتاكيد قد وضعت المنطقة على حافة الانفجار قبل أن تتدخل الوساطات الإقليمية والدولية التي رمت بثقلها من أجل إطفاء الحريق ومنع تحول النزاع الى حرب.
العراق باتفاقية الإطار الستريجي مع الولايات المتحدة، التي تنظم وجود القوات الأميركية في العراق مقابل الدعم السياسي والعسكري للجانب العراقي، قد لا يمتلك بدائل ومقومات كافية لجعله محرّرا من الاتفاقية والتواجد الاميركي على أرضه، وهو تواجد بعلم الحكومة العراقية وبالاتفاق معها، إذ إنّ واشنطن التي قد تعد المطالبة بإنهاء هذا التواجد نوعا من التحدي لها واصطفافا مع الجانب الإيراني ضدها وهو وضع لن تقبل و لن تسمح به واشنطن، وقد هددت بمنع العراق من الوصول الى أموال مبيعات النفط المودعة في المصارف الأميركية مما سيعني إفلاس البلاد وإضعافها وتجويعها اقتصاديا، وهو ما يعني جعل واشنطن في مواجهة العراق وربما سيعتبر عملا عدائيا مباشرا ويعيد الى الذاكرة سنوات الحصار المريرة التي تعرض لها العراقيون، التي استمرت قرابة الثلاثة عشر عاما.
إن معالجة الوجود الأجنبي في العراق تقوم على تفهم المصلحة الوطنية مع مراعاة أنّ وجود هذه القوات يمثل إضعافا للسيادة العراقية من خلال العديد من التجاوزات التي حصلت ومن بينها قصف بعض مواقع ومعسكرات الحشد الشعبي داخل الأراضي العراقية من دون أن تتدخل واشنطن التي تمتلك منظومات متطورة للدفاع الجوي من حماية الأجواء العراقية ومنع حصول الهجمات. غضافة الى ذلك، فإنّ واشنطن تفرض قيودا شديدة على تسليح الجيش العراقي إذ لا يمتلك الجيش العراقي سلاحا جويا فاعلا، بل لا يزال محدودا، وحتى أسراب طائرات F-16 يفرض الأميركيون قيودا شديدة بشأن استخدامها، وهم منْ يدير عملية صيانتها وتسليحها وتجميعها في مطار واحد تحت إشرافهم، فضلا عن معارضتهم محاولة العراق امتلاك منظومة الدفاع الجوي المتطورة
 S-400 ، حيث تفرض واشنطن عقوبات على أيّة دولة، حتى وإن كانت حليفة لها، في حال حاولت امتلاك مثل هذه المنظومة لأسباب سياسية واقتصادية.
إنّ الالتزام باحترام السيادة العراقية ومشاورة الحكومة العراقية قبل إقدام واشنطن على أي عمل أو تصرف سواء أكان عسكريا أم سياسيا يمثل سلوكا مطلوبا من قبل الولايات المتحدة تجاه العراق، بدلا من محاولة الإنفراد بالتصرف وجعل العراق مسرحا لأي صراع مع خصومها في المنطقة.
لقد فكر زعيم سياسي عراقي خلال أربعينيات وخمسينيات القرن الماضي، نوري السعيد، في توظيف وضع العراق الجغرافي وإمكاناته بالاستقواء بالدول العظمى من أجل التأسيس لدور عراقي محوري في المنطقة يحمي ضعفه الجغرافي أمام جيرانه الأقوياء وقتها وتنافسهم عليه من خلال التأسيس لحلف ناتو شرق أوسطي حمل اسم بغداد. لكن انحياز السعيد الجارف نحو بريطانيا وأخطاءه السياسية الداخلية وشيخوخة النظام وعجزه عن التجديد جعله ينهار ويسقط صبيحة يوم الرابع عشر من تموز من العام 1958 .