خدعة محاكمة الرئيس

آراء 2020/01/26
...

د.محمد فلحي
وصف الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، محاكمته التي بدأت خلال الأيام القليلة الماضية، في مجلس الشيوخ، بأنها(خدعة)، لكنه لم يوضح مَنْ يخدع مَنْ في هذه المحاكمة التي تعد الثالثة في تاريخ الولايات المتحدة الأميركية، منذ نحو مئتي عام، فمن جورج واشنطن، أول رئيس أميركي(1789-1797)، إلى الرئيس الأميركي الحالي الذي يحمل الرقم الخامس والأربعين، لم يعزل أي رئيس أميركي من منصبه على الإطلاق، وتعرض ثلاثة رؤساء فقط لإجراءات عزل فشلت في حالتين، ولم تصل إلى نهاية المسار في الحالة الحالية، ؤ
و ربما ذلك هو ما دعا ترامب إلى وصف المحاكمة بالخداع لأن نهايتها معروفة مسبقاً وهي البراءة، وأن كل ما يجري هو مسرحية ديمقراطية قد تمهد للانتخابات المقبلة في خريف العام 
الحالي. 
الرئيس الأميركي يحاكم بتهمة التحدث هاتفياً مع الرئيس الأوكراني بشأن التحقيق في قضية فساد مزعومة في تلك البلاد لنجل منافسه الديمقراطي في الانتخابات المقبلة(جو بايدن) نائب الرئيس السابق، وقد فسرت تلك المكالمة من قبل منافسي ترامب بأنها محاولة لابتزاز أوكرانيا في مقابل تسقيط منافسه الأقوى، وعندما عرضت في الكونغرس حيثيات القضية ووثائقها، ومن ضمنها تسجيل المكالمة نفسها، وجد أغلب النواب أنّ ما ارتكبه الرئيس يمثل انتهاكاً للدستور وتهديداً للأمن القومي، ومن ثم فهو يستحق المحاكمة، وربما العزل من منصبه
، وقد جرى تحويل القضية إلى مجلس الشيوخ الذي يضم مئة عضو أغلبهم من الحزب الجمهوري، وذلك ما يجعل نتيجة التصويت في النهاية محسومة لصالح الرئيس، مهما طالت المحاكمة!
  القضية كلها تدور بشأن مكالمة ترامب مع زميله الأوكراني، ولو جرت هذه المحادثة الهاتفية في أي بلد آخر غير أميركا لكانت من أسرار الدولة ولا أحد يعرف عن مضمونها شيئاً، ولا يتعرض الرئيس لأي نوع من المساءلة ولا يطلع عليها الرأي العام أو يهتم بها، ولكن النظام الأميركي يشترط على الرئيس تسجيل أية مكالمة خارجية، وأن يحضر وقت المكالمة اثنان من أعضاء الكونغرس أحدهما جمهوري والآخر ديمقراطي، وهو ما يبدو قمة في الشفافية السياسية والحرص على الأمن والمصالح القومية، لكنه من جانب آخر يثلم في صلاحيات الرئيس ويضعف من موقفه، ويمكن أن يستخدم ضده من قبل المغرضين المناوئين، وذلك هو جوهر القضية 
الراهنة.
الرئيس يحاكم وفق الدستور الأميركي على مكالمة هاتفية مشكوك في محتواها، ولكنه لم ولن يحاكم على ما هو أشد خطراً على الأمن القومي الأميركي وعلى العالم كله، عندما يستهدف دولاً أخرى ويهدد بإعلان الحرب ضدها، ويستخدم وسائل القتل والتدمير ضد الشعوب بحجة الدفاع عن المصالح الأميركية، أو فرض الهيمنة على الشعوب بقوة السلاح المتطور!
   هناك رؤساء أميركيون سابقون اتهموا أو حوكموا على أعمال تعد تافهة مقارنة بالحرب والغزو والإبادة، مثل الرئيس الديمقراطي أندرو جونسون(1808-1875) الذي اتهم بمخالفة القانون على خلفية إزاحته وزير الحرب الأميركي من منصبه، وهو القرار الذي لم يكن يحق له كرئيس أن يتخذه في أعقاب الحرب الأهلية، وجرى سحب الثقة منه من قبل مجلس النواب، ولكن تمت تبرئته في مجلس الشيوخ بفارق صوت
واحد!
    الرئيس الجمهوري ريتشارد نكسون اتهم بالتجسس على مقر الحزب الديمقراطي في ما يعرف بقضية (ووترغيت) وقد أجبر على الاستقالة عام 1974. أمّا الرئيس كلنتون فقد واجه قضية تحرش معيبة، حيث قام مجلس النواب الأميركي بإقالته في كانون الأول 1998، بتهم الكذب في الحلف وعرقلة سير القانون على خلفية علاقته الجنسية ب(مونيكا لوينسكي) المتدربة في البيت الأبيض، لكنه بُرّء من قبل مجلس الشيوخ في شباط 1999 وأكمل ولايته 
الرئاسية!
    لكن من الغريب أن هناك رؤساء قادوا الجيوش وارتكبوا المجازر ضد البشر في دول بعيدة مثل اليابان وفيتنام وكوريا وأفغانستان والعراق لم يسألهم الكونغرس عن جرائمهم ولم يحاكموا ولم يعزلوا، فهل مكالمة ترامب أو تحرش كلنتون أو تجسس نكسون أكثر خطورة من استخدام القنابل الذرية ضد الشعب الياباني أو اليورانيوم المنضب ضد الشعب العراقي!
  العدالة الأميركية تبدو عوراء في عالم تحكمه القوة وليس الحق أو الشرف ،وأبرز دليل على غياب الحكمة والعدالة هو أن يكون شخص مثل ترامب رئيساً لأكبر قوة عسكرية واقتصادية عالمية، وأن يحاكم على مكالمة هاتفية حمقاء، ومن ثم سوف تتم تبرئته 
لاحقاً.