رمزية التلويح بالماء

آراء 2020/02/03
...

محمد شريف أبو ميسم
 

حين وقف نتنياهو لإلقاء كلمته في حفل إطلاق صفقة القرن، مسك بكأس الماء ورفعه ثم قال: (ونحن نعلن عن صفقة القرن نشرب الماء). ليؤكد صحة التسريبات المتعلقة بوجود منطقة منزوعة السلاح تحكمها شركات العولمة الأمنية من أرض سيناء إلى أرض العراق في إطار صفقة القرن، مذكرا بالشعار الرسمي لأرض إسرائيل الكبرى: "من الماء إلى الماء تترامى حدود الدولة اليهودية". 

ونحن هنا لا نتخذ من رمزية التلويح بالماء أكثر مما أراده نتنياهو المعروف بمغازلته لليمين الراديكالي الإسرائيلي، إذ أعاد لنحو عشرة مرات مصطلح "الدولة الهيودية" ولم يقل إسرائيل، في إشارة واضحة لما يسمونها أرض الميعاد القائمة بحدود زرقاء بين مياه النيل ومياه الفرات التي تقام عليها دولتهم الكبرى، ففي ما يدعون أن نبي الله إبراهيم أعطى زوجته سارة رمزية الوعد التي رسم عليها خطين زرقاوين، وهذا ما موجود حاليا 
على العلم الإسرائيلي. 
والوعد بحسب أقوال كتب اليهود كان في البدء إلى إبراهيم، التكوين - الإصحاح 15 الآية 14 ( وفي ذلك اليوم قطع الرب مع آبرام ميثاقا قائلا: لنسلك أعطي هذه الأرض من نهر مصر الى النهر الكبير نهر الفرات) وتجدد العهد بعد ذلك إلى ابنه إسحاق بن سارة التي "غارت" من خادمتها هاجر بعد أن تزوجها ابراهيم وانجبت له إسماعيل، ( التكوين - الاصحاح السادس عشر - الآية 6: فقال آبرام لسارة هو ذا جاريتك في يدك، افعلي بها ما يحسن في عينيك، فأذلتها سارة، فهربت من وجهها) فأخذهما إبراهيم هي وابنهما ليتركهما في الصحراء، ثم تجدد الوعد ليعقوب بن إسحاق.
وأسندت أرض الميعاد لأولادهم، وكان وصف الوعد في شروط تلزم امتداد الأرض من نهر مصر إلى نهر الفرات، إذ يحل الإله في الأرض، لتصبح أرضاً مقدسة ومركزاً للكون، ويحل في الشعب ليصبح شعباً مختارا، ومقدسا وأزليا بعد طرد أحفاد إسماعيل كما طرد جدهم من هذه
الأرض. 
ونحن هنا لسنا بصدد مناقشة النصوص التوراتية التي طعن بصدقيتها الكثير من المؤرخين اليهود أنفسهم، فضلا عن المتخصصين في الشأن التوراتي، ولسنا بصدد الخوض بشأن سياسات وآيديولوجيات الحركة الصهيونية التي أعادت انتاج هذه النصوص، بما ينسجم ورعايتها للدولة الإسرائيلية، ولكننا بصدد الخوض في إمكانية التوسع خارج الأراضي الإسرائيلية التي رسمت حدودها الجديدة صفقة القرن، إذ سينبري الكثيرون بالقول، إن هذا المشروع سيلقى مقاومة شرسة تعيد انتاج الحروب، في ظل الدعوات الدولية الرامية لتحقيق السلام في هذه المنطقة الحيوية من العالم. 
وهذا القول فيه كثير من المنطق، ولكنه يغفل استبدال أدوات الهيمنة العسكرية بأسلوب الاحتواء الاقتصادي والثقافي للأمم الذي يسحب خلفه وبالضرورة مفهوم عولمة الأمن لحماية الاستثمارات في نظام الاقتصاد الليبرالي القائم على الحرية المطلقة والملكية والمسؤولية غير الملزمة في إطار الدولة الليبرالية بوصفها أنموذجا للانفتاح على العالم وبديلا عن العزلة
الدولية.
إذ بات من المعروف أنّ سلطة رساميل العولمة هي التي تصنع الحكومات وتتحكم بالقرار السياسي من الحديقة الخلفية للنشاطات الاقتصادية بموجب ما يسمى بمواطنة الشركات التي تمنح هذه الشركات والعاملين بها حق المواطنة الذي ينسحب الى مساحة الحقوق السياسية، وبالتالي إدارة شؤون الحياة بما ينسجم مع ديمومة سلطة رساميل العولمة، وعلى هذا فإن الهيمنة على المنطقة المنزوعة السلاح في صفقة القرن، لن تحتاج الى الاجتياحات العسكرية لبسط النفوذ والتوسع، أكثر من حاجتها لسلطة المال، فما بالك بدول تستجدي الرساميل الأجنبية للاستثمار في بيئاتها الاقتصادية، وتشرّع القوانين التي تجيز لشركات العولمة الأمنية التواجد على أراضيها، وما بالك بصفقة تشترط نزع السلاح من سيناء شرقا إلى العراق، وتمهد لعولمة الأمن في هذه المنطقة، ليأخذ التواجد العسكري حلة شرعية تتماهى مع مفهوم الاستثمار وتتكامل معه، في ما يترك لهذه الدول حق المطالبة بخروج القوات المسلحة الأجنبية من أراضيها بوصفها جيوشا تحمل عناوين دول غير مرغوب بتواجدها العسكري.