إصرار السياسة الأميركية على إقصاء الحق الفلسطيني

آراء 2020/02/03
...

علي حسن الفواز 
 

يبدو أن وهم السلام الأميركي هو الخيار الافتراضي الدافع للحديث عن وهمٍ أكثر خطورة، واعقد تطبيقا، الذي يتعلق بموضوع السلام الفلسطيني الإسرائيلي، وعبر صفقة غامضة سماها الإعلام "صفقة القرن" الأسئلة المرّة إزاء هذه الصفقة المريبة تتعالق مع طبيعة الأطراف التي تفكر بها وتخطط لها وتعمل على فرضها، فهل هي صفقة واقعية وحقيقية؟ وهل هناك بيئة سياسية وأخلاقية وحقوقية قابلة لتطبيقها؟

هذه الأسئلة تطرح واقعا ضديا، وممارسات من الصعب أن تنفذها  إسرائيل، ومن أنْ تضمنها الولايات المتحدة، إذ تبدو هذه " الصفقة" وكأنها نوع من الحرب الناعمة، ومن الأوهام التي اعتاد العقل الأميركي تسويقها وفرضها على "الضعفاء".
إن وهم القوة الإسرائيلية، هو وهم السيطرة الأميركية كذلك، مثلما هو، بالمقابل، وهم الضعف العربي، الذي أشار الى فكرته أمين معلوف في كتابه الأخير "غرق الحضارات" بقوله إن" العرب لم يتخطوا لحظة الهزيمة، وإسرائيل لم تتمكن من الإفلات من فخ الانتصار، إذ وجدت نفسها غير مضطرة لتقديم تنازلات" 
من هذا التصور بات الحديث عن مشروع الصفقة خيارا مريبا لصناعة واقع سياسي وأمني في المنطقة، وربما واقع تاريخي يقوم على فرضية "إنهاء القضية الفلسطينية" وتحويل موضوع الحقوق والأرض والحدود الى قضية خارج الاستعمال الدولي، يتحول فيها  الشتات الفلسطيني إلى أرض سياسية للإقامة الدائمة، وتتحول الحكاية الفلسطينية وأحلام محمود درويش وسميح القاسم إلى أحلام موتى، مثلما تتحول تغريبة إميل حبيبي الفلسطينية الى جزء من سرديات المثيولوجيا.
 
الإعلان واستعراض السلام
المؤتمر الصحفي الذي عقده الرئيس الأميركي رونالد ترامب ورئيس تصريف الأعمال الإسرائيلي بنيامين نتنياهو في واشطن لا يعدو أن يكون مؤتمرا استعراضيا، على مستوى إخراج المشهد، وعلى مستوى السيناريو الفخم الذي عُرضت فيه الصفقة، وجرعة العلاقات العامة التي طرحها طرفا المؤتمر، لا سيّما ما يخصّ سفراء الدول العربية الذين حضروا المؤتمر، ونوعية الخطاب الذي تم اختيار عباراته بدقة، الذي يعكس الحمولة الدلالية للصفقة، وللنوايا التي تُعبّر عنها، فضلا عن علاقة هذا الإعلان بالشفرة الانتخابية التي أراد أن يوصلها الرئيس ترامب لجمهوره الانتخابي نهاية هذا العام، لا سيّما الجمهور اليهودي، فضلا عن خطاب البراءة الذي أراد نتنياهو استدعاءه لتجاوز الأزمة السياسية والأخلاقية التي يعيشها ويواجه 
تداعياتها.
الـ"لا واقعية" قد تكون توصيفا مهنيا دقيقا لما جرى، وهذا أكدته صحيفة "التايمز" في افتتاحيتها يوم الثلاثاء الماضي، إذ أشار محررها الى علاقة "خطة السلام" في هذه الصفقة بالمأزق الإسرائيلي في غزة، ومع حماس بشكل خاص، فما جرى خلال الأشهر الماضية، ولعبة الحرب المفتوحة بين الطرفين، قد تكون واقعا من الصعب على الإسرائيليين تجاوزه، ومعالجة المشكلات العميقة التي يعيشها قطاع عزّة بزخمه السكاني الكبير، بركوده الاقتصادي المريع، وبنسب البطالة التي يعاني منها شبابه، فضلا عن مواجهة التمدد الديموغرافي المستقبلي وتهديده "الدولةَ اليهودية"
المفترضة.  
إنّ ما أراده ترامب هو تجاوز المألوف، وخلخلة طبيعة الصراعات في المنطقة، وإيجاد ثغرة داخلية يبحث لها عن مؤيدين من العرب ومن الأوروبيين، مثلما يبحث عبرها عن صفقات كبيرة للتمويل والتسليح والبناء، والتي ستكون الشركات الأميركية هي صاحبة الحظوة في ذلك، فضلا عن نواياه بفكّ قواعد الاشتباك في المنطقة عبر تمزيق الجماعات الفلسطينية بين مؤيد سيحظى بالمغريات، ومعارض سيواجه العقوبات، 
وكذلك قطع الطريق على الدور الإيراني عبر إحراج منظمات حماس والجهاد الإسلامي
وغيرها من الفصائل ذات 
النزعة الجهادية.
 
القدس وخريطة الطريق
من أكثر ما يُهدد فشل هذه الصفقة المريبة هو خريطة طريقها، حيث ربطها المخططون بحسابات مالية وليست تاريخية أو حقوقية، فإخراج القدس من "خطة السلام" يعني تحويلها الى لعبة أقوياء وضعفاء، وتغليب المثيولوجيا اليهودية على التاريخ الإسلامي للمدينة، كما أن سعي إسرائيل لضم  ثلث الضفة الغربية، بما في ذلك المستوطنات وغور الأردن، يكشف، من جانب آخر، عن أفقٍ لمشاريع استيطانية أخرى، قد تتجاوز فيها الدولة العبرية إلى حدود الآخرين، وإلى أيّة دولة عربية مجاورة، لا سيّما أنها تعمل على ضم الجولان السورية الى مشروعها 
الاستيطاني.
الحديث الأميركي عن البدائل في الأرض هو مخاتلة لفرض الأمر الواقع، ولتحويل "الدولة الفلسطينية" المحاصرة وغير المسلحة الى فخ كبير، وإلى "غيتو" يعرف الإسرائيليون مدى رعبه وخطورته، وإلى مصدر للتهديد الدائم، ليس للفلسطينيين حسب، بل لدول المنطقة، ولسياساتها وعقائدها، لأن معطى الثبات الإسرائيلي في الجغرافيا يعني التمدد، ويعني خلق بيئة سياسية وأمنية وثقافية واقتصادية ترتبط بدول الخليج العربي، وبالتشكلات والعلاقات والمصالح التي سيفرضها هذا
الارتباط.
خريطة  الطريق المتخيّلة تقوم على فكرة صناعة تاريخ جديد، وعلى سياسات تربط التاريخ بالميثولوجيا، وتعزز مسار الهيمنات الأمنية، والتسليحية التي تمتلكها إسرائيل إزاء ما يُسمى بـ "الخطر الإيراني"، وهي خيارات أميركية وإسرائيلية أولا، وخيارات خليجية ثانيا، وربما خيارات أوروبية ثالثا، والتي لاتملك قدرة على مواجهة القوة الأميركية، لا سيّما بعد فشل دورها في الحفاظ على الاتفاق النووي مع إيران.
وبصرف النظر عن الموقف الروسي والصيني  وطبيعة سياساتهما المتقاطعة مع الولايات المتحدة، فإن ما تواجهه هذه الدول من أزمات وصراعات، لا سيّما الصين، بعد أحداث مرض كورونا، سيضعها أمام حسابات قد تُضعِف من موقفهما الرافض للصفقة، مقابل امتيازات سياسية وأمنية واقتصادية سيحصلون عليها، وتحت يافطة البحث عن حلول واقعية للقضية الفلسطينية، فضلا عن أن الدول العربية التي تعاني من مشاكل بنيوية عميقة ستجد نفسها في وضع حرج، وضعيف مقابل حماس عديد من الدول الخليجية الغنية لدعم هذه الصفقة وتغطية نفقاتها
المالية.