كان الخلاف على أشده بين عبد الكريم قاسم وعبد السلام عارف في الفترة الزمنية التي ضعفت فيها قدرة الأول في الضبط والسيطرة، عسكرياً وسياسياً، نتيجة التنحي الطوعي والجبري للزملاء العسكريين المشاركين في حركة تموز، وكتحصيل جانبي للتفرد بالقرار والعزوف عن الانتقال إلى الديمقراطية، في الفترة ذاتها التي قوي فيها العسكر السياسي، وبرز على السطح تناقص التأثير الشيوعي في القوات المسلحة، وتناقضات مواقفه التي أثارت قاسم بالضد من تنظيماته، إذ وبعد أن كانت أعداد الضباط الشيوعيين في القوات المسلحة بعد العام 1958، كبيرة ومؤثرة نسبياً بالمقارنة مع عدد المنتمين الى حزب البعث والقوميون العرب، وبعد سيطرتهم على أهم المناصب في القيادة العسكرية، مثل القوة الجوية والانضباط العسكري، والحركات العسكرية ومحكمة الثورة، وقيادة بعض الوحدات، إلا أنها أعداد لم تستطع تأثيراتها وسيطرتها الوقوف بالضد من تغيير قاسم لموقفه منهم وتنحيه عن دعم خططهم بعد أحداث كركوك الفوضوية، وسعيه لادخال آخرين في توزيع المناصب العسكرية، لأغراض التوازن معهم من ذوي الاتجاهات القومية العربية، تناقضات أبقت الشيوعيين في حالة حيرة مقلقة، وأبقت قاسم في توتر وخشية الانقلاب عليه من قبلهم، فكونت بالمحصلة ثغرة بين الطرفين المتحالفين وجوبا، استفاد منها البعثيون والقوميون العرب الحاصلون على دعم خاص من جمال عبد الناصر وقوى غربية، والساعون الى توسيع خلاياهم التنظيمية في الجيش بعد تخرج بعض الشباب الحزبيين من الكلية العسكرية التي دخلوها مع موجة التوسع والانفتاح التي كونها قاسم تجاوزا على السياقات العسكرية الصحيحة.
وهي الثغرة التي استغلت، بالإضافة الى العامل الخارجي المهم، في تنفيذ انقلاب عسكري يوم الثامن من شباط عام 1963، على طريقة التوافق المصلحي بين عبد السلام، العسكري الطموح المنفذ للصفحة الأولى والمهمة للرابع عشر من تموز، الذي يرى نفسه متضرراً من نتائجها، الأحق في سلطتها، والأكفأ بمنصب رئيسها، ويرى، كذلك، أنها الفرصة المناسبة للانتقام من الصديق الذي نحّاه جانباً، وبين البعثيين القوميين الوحدويين المنظمين في الوحدات والدوائر العسكرية، بلا رمزٍ قيادي مهيأ لقيادتهم، قادرٍ، باسمه وتاريخه، على تهدئة مخاوف الشارع، وترطيب الأجواء المشحونة مع دول الأقليم، وتقليل قلق الضباط بالرتب العليا وقادة الجيش وكسب رضاهم وتأييدهم لما يمكن أن يحدثه التغيير مستقبلا، فكان الاتفاق بين الطرفين هو الأنسب لتنفيذ الأهداف المشتركة على أقل تقدير، فجاء اتفاقاً حذراً، بنوايا احتواء مستقبلي مبيت على الأغلب من كلا الطرفين، دفعهما إلى التوسع في الاتصالات الجانبية مع الأطراف العسكرية باتجاه التكتل للقيام بفعل التغيير أو الحيلولة دون حصوله من قبل الـ"غير"، وبمحصلة الاتصالات والتنسيق ودقة التنفيذ، نجحوا في إحداث فعل الإنقلاب صباح اليوم المذكور، وبنجاحه فتحوا شقوقاً في هيكلية البناء
العسكري والسياسي والاجتماعي للبلاد، لم يتم ترميمها حتى وقتنا الراهن.