8 شباط 1963 .. الذكرى والتذكير والعبر

آراء 2020/02/07
...

عبد الحليم الرهيمي
 
اليوم تحل الذكرى السابعة والخمسون للانقلاب الدموي في 8 شباط العام ،1963 الذي خططت له وقادته قيادة حزب البعث بالتعاون مع بعض الضباط الموالين لها، وقد نجم عن هذا الانقلاب ارتكاب مجزرة دموية ضد الشيوعيين والقاسميين الذين هبوا للتصدي له واتجهوا إلى وزارة الدافع التي كان يتحصن فيها الزعيم عبد الكريم قاسم
حيث ارتكبت هنا ابتداءً المجزرة ضد الشيوعيين والمدافعين عن الوزارة وقاسم الذي اقتيد مع ضباطه المقربين إلى مبنى الإذاعة والتلفزيون في الصالحية ببغداد، وتمت عملية إعدامهم بعد محاكمة صورية، ثم أعقب ذلك شن حملة اعدامات واعتقالات ضد الشيوعيين وأنصار عبد الكريم قاسم في عدد من مدن العراق. هذا الانقلاب والمجزرة الدموية الناجمة عنه واسقاط نظام الحكم الجمهوري الذي انبثق في 14 تموز 1958، لم يكن حدثاً عادياً، وإن لم يكن مفصلياً، بل عبر عن حالة انقسام جديدة في المجتمع العراقي وعبر عن (ثقافة) حل الخلافات والصراع بين فئاته وتياراته السياسية بالعنف والإرهاب، هذا بينما عد الشيوعيون والقاسميون ومؤيدوهم هذا الحدث – المجزرة نقطة سوداء في تاريخ العراق المعاصر. ويستذكر الحزب الشيوعي العراقي وكل الذين يدينون ذلك الانقلاب المجزرة هذه الذكرى والتذكير بها بالنقد والإدانة بمختلف التعبيرات، لكن التركيز على العبر منها ومن كل الأحداث العنفية المماثلة يطرح الأسئلة الكبرى عن أسبابها ودوافعها وظروف حدوثها والسياقات التاريخية التي أنتجتها كي يجري بعد ذلك البحث عن كيفية وسبل معالجتها وكيفية التخلص من تلك الأسباب والدوافع المنتجة لها.
وإذا جاز لنا العبور والذهاب بعيداً في دراسة وتحليل أسباب العنف والعنف المضاد في تاريخ العراق الحديث، ومنذ تأسيس الدولة العراقية العام 1921، فإن من المفيد التوقف، أقله، عند دراسة هذه الظاهرة منذ ثورة – انقلاب 14 تموز 1958، حيث بدأت أحداث العنف القاسية وغير المسوّغة بالتصفية الدموية لأفراد العائلة الملكية، ثم تلت المجزرة الصراع السياسي الذي تحول بسرعة إلى صراع دموي بين الشيوعيين والقاسميين وأنصارهم من جهة، والبعثيين وسائر القوى القومية وبعض القوى الدينية من جهة أخرى، ثم ما أعقب فشل انقلاب وتمرد العقيد عبد الوهاب الشواف، في الموصل بداية العام 1959، من أعمال عنف ثم ارتكاب جرائم عنف ضد المواطنيين العراقيين التركمان ووصفهم بـ(الطورانية) منتصف العام 1959، الأمر الذي دعا عبد الكريم قاسم، الذي يعده الشيوعيون حليفاً لهم، إلى التنديد بهم وتحميلهم مسؤولية تلك الأعمال العنفية ضد التركمان في خطابه الشهير في كنيسة مار يوسف، إذ وصف الشيوعيين من دون أن يسميهم بـ (الفوضويين)، ثم تلى ذلك حدوث أعمال عنفية متفرقة حتى قيام الانقلاب الدموي، في 8 شباط العام 1963. إن مجزرة انقلاب 8 شباط عام 1963، التي ارتكبت بحق الشيوعيين والقاسميين وغيرهم على يد حزب البعث آنذاك ينبغي التوقف، في لحظة استذكارها وادانتها الشديدة، عند الأسباب والدوافع التي أدت لارتكابها ليس فقط من أجل قراءة منصفة وحقيقية للتاريخ، بل من أجل على إنهاء وتبديد كل الأسباب والدوافع المؤدية دائماً لاستخدام العنف الذي يواجه حتماً بعنف مضاد.
والواقع، إن من بين الأسباب والدوافع التي هيأت بعض المسوغات لمن قاموا بانقلاب 8 شباط ومجزرته هي بعض الممارسات العنفية والإرهاب الفكري الذي مارسته بعض قيادات الحزب الشيوعي آنذاك، بدءاً من 14 تموز 1958 حتى انقلاب 8 شباط، وتحديداً منذ إبعاد عبد السلام عارف، نائب عبد الكريم قاسم، ورمز التيار القومي العربي آنذاك، إلى بون، في ألمانيا، في 5 أيلول 1958، الذي عُدّ نصراً للشيوعيين على البعثيين والقوميين، وأعقبته تظاهرات استفزازية تشهر بهم، وكان الانقلاب الفاشل للعقيد الشواف أوائل 1959، ومحاكمة القائمين به، ثم ما تلى ذلك من استفزازات في التظاهرة الضخمة بمناسبة الأول من أيار 1959، ثم أحداث كركوك وخطاب عبد الكريم قاسم في كنيسة مار يوسف وتعليق حبال المشانق في مدخل سوق الشورجة وغيره، كل ذلك قد ولد حالة من الاحتقان والآلام التي زرعت بدورها بذور الرغبة للانتقام والثأر، إذ جرى التعبير عنها، بشكل وآخر، بالانقلاب الدموي في 8 شباط.
إن الرغبة في الثأر والانتقام واستخدام العنف المضاد مقابل العنف، حيث الدم يستسقي الدم، يعود بشكل أساسي إلى غياب وانعدام ثقافة الحوار والتفاهم مع الآخر المختلف عبر الاعتراف بالاختلاف معه والاعتراف به ابتداءً بما يؤدي الى الحلول والتسويات المقبولة لدى الأطراف المختلفة وإن كان على
مضض. وإذا كان القضاء على الآخر المختلف غير ممكن، فإن تحقيقه لن يكون إلّا مؤقتاً ليعود هذا الآخر للقضاء على من حاول القضاء عليه، وهكذا. ولأن دائرة العنف والعنف المضاد لا تتوقف فينبغي، والحالة هذه، البحث عن السبل الحقيقية لتقليص ثم القضاء على أسبابها ودوافعها وظروف نشأتها وتكونها. ربما يمكن القول راهناً، إن حركة الاحتجاجات الشعبية العارمة التي اندلعت منذ الأول من تشرين الأول العام الماضي قد استخلص محركوها أو القائمون عليها من بعض دروس العنف والعنف المضاد، فرفعوا شعار السلمية وتجنبوا، بقوة، اللجوء للعنف المضاد الذي استخدمه ضدهم (القناصون) و (الطرف الثالث) و (الملثمون) وحتى قوات مكافحة الشغب الحكومية، وهذه إحدى المآثر الإيجابية المهمة جداً التي تسجل للحراك وذلك على الرغم من الأعمال التي تسيء لشعار السلمية التي يرتكبها بعض المراهقين أو الغاضبين، فضلاً عن أعمال (المندسين) والطرف الثالث الذينِ تنسب إليهما تهمة الانتماء لبعض أحزاب وتيارات الطبقة السياسية الحاكمة. إن تعليق عمود يعلق عليه حبل مشنقة في ساحة التحرير هو عمل غير مسؤول (رغم رفعه بعد أيام) لأنه يعبر عن رغبة رافعيه بالانتقام، كما أن ظهور بعض (الناشطين) وتقديم أنفسهم على أنهم يعبرون عن حركة الاجتجاج لكنهم يهددون وبأصابع السبابة الطبقة السياسية وأنصارها بالانتقام إنما يسيؤون إلى سلمية الحراك وعلى رعاته الحقيقيين إبعادهم تماماً عن تصدر مشهد الحراك السلمي.
كما أن على الحزب الشيوعي، الذي يستعيد هذه الأيام ذكرى مجزرة انقلاب 8 شباط، دراسة ظروفه وأسبابه ومقدماته واستخلاص العبر من ذلك، فإن على قادة الحراك الشعبي الاستفادة أيضاً من كل دروس العنف التي مرت على تاريخ العراق الحديث بإفشال مخطط جرهم إلى العنف المضاد الذي يقود الى المجهول الذي لا يريده أحد.