كشفت الاحتجاجات الشبابية المستمرة، في العراق، منذ أشهر عدة، عن أزمة في التواصل وعجز في الاقناع بين الطبقة السياسية والجمهور، وقد اتضح مقدار الهوّة بين الجانبين، من خلال الخطابات الحكومية والبيانات الرسمية والحزبية التي رافقت تطور الأحداث، ومن ثم تصاعدها الخطير في الأيام الأخيرة،
وهو ما يستدعي من رئيس الحكومة المكلف وفريق مساعديه ومستشاريه تبني خطاب رسمي عقلاني جديد، يقوم على الحوار والتفاهم والإقناع في مخاطبة العقول الشابة الواعية التي تمثل أغلبية المتظاهرين السلميين المطالبين بالحقوق المشروعة والإصلاح والتغيير
الديمقراطي.
كان عصر الثورات خلال القرنين الماضيين يعتمد على تحشيد الجماهير، بشأن قضية أو مشكلة، ثم تحريضها وتحريكها عبر الخطاب الشفهي المباشر، أو من خلال وسائل الإعلام، لإسقاط الأنظمة السياسية أو تغييرها بقوة الاندفاع الجماهيري الهائل، وباستخدام أسلحة بدائية بسيطة، في كثير من الأحيان.
ولعل جميع (الثورات) التي شهدتها المنطقة العربية، منذ بداية القرن العشرين، كانت تعتمد على ثلاثة أسلحة: بيان صادر من قيادة الثورة، وإذاعة مسموعة لتبليغ الجماهير بمضمون ذلك البيان وأسماء الثوار، وعدد من الدبابات والبنادق لمحاصرة القصر الملكي أو الرئاسي!
اليوم أصبحت الشاشة الصغيرة(تلفزيون أو هاتف ذكي) هي السلاح الفعّال، الذي لم يدرك أغلب السياسيين أبعاده ومعطياته وانعكاساته، ولم يفهموا لغة الوسائط المتعددة (الملتيميديا) والتفاعلية التي وفرتها تقنيات الإعلام الجديد، فلجؤوا لوسائلهم القديمة في محاولات المنع والحجب والرقابة والتضليل والخداع لمواجهة المد الشعبي، الذي أصبح يتحرك بسرعة فائقة، متجاوزاً تلك الحواجز التقليدية ومحطماً جميع القيود المعروفة!
لم تعد لغة الوعد والوعيد صالحة في مخاطبة الناس من قبل الحكام، وقد سقطت لغة القوة والترهيب منذ عقود، عندما أصبحت الموجات والشاشات وصناديق الاقتراع وسيلة الوصول إلى السلطة، وقد ظلت المنطقة العربية، مع الأسف، تعاني حتى وقت قريب، من عجز في تطوير الأنظمة الحاكمة، وهيمنة الخطاب الرسمي الواحد، وجمود اللغة السلطوية التي تفتقد المرونة والتفاعل مع عقلية الأجيال الشابة، التي تعايشت مع وسائل الكترونية(سمعية وبصرية) مثل الألعاب الرقمية (كاندي كراش والبوبجي) والحاسوب المحمول(لاب توب) والهاتف النقال (موبايل)، واستخدمت برامج التواصل عبر هذه الأدوات الجديدة بذكاء وإدمان وإفراط مثل تطبيقات المحادثة والدردشة (الماسنجر) و(السناب شات) والمدونات والفيسبوك وتويتر وانستغرام ويوتيوب وغيرها الكثير، حيث تدفقت المعلومات، وتمت صياغتها وتداولها واستخدامها، بعيداً عن نظر الرقيب، وقد اضمحلت صورة السياسي، وتآكلت، تدريجياً، سلطة الحاكم الذي كان يحتكر الثروة والسلاح والمعلومات ويوظفها، وفقاً لمصالحة ورغباته وأهدافه.
الانفجار غير المتوقع من قبل جميع الأنظمة العربية الحاكمة، الذي بدأ في تونس وانتقل إلى مصر ثم إلى ليبيا واليمن وسوريا، وأخيراً العراق ولبنان والسودان والجزائر وغيرها، وما تزال تداعياته مستمرة، كان نتيجة عدة عوامل سياسية واجتماعية وتقنية، تجمعت تحت ظروف معينة، في ما يشبه التفاعل الكيمياوي الذي يقوم على التقاء عناصر طبيعية، تؤدي إلى تكوين مركبات جديدة، قابلة للانفجار من خلال شرارة يطلقها صاعق صغير، وذلك ينطبق على ما حدث في الشارع العربي، حيث توفرت العناصر وتفاعلت، ثم جاءت تلك الشرارة، فأشعلت الحريق، وأنارت الطريق أمام الباحثين عن فرصة جديدة في الحياة والمستقبل.
أحد العوامل المؤثرة في أزمة النظام السياسي العربي، بصورة عامة، هو(الشيخوخة) التي أدت إلى أمراض مزمنة، وعدم اتاحة الفرصة للدماء الشابة لكي تتدفق في شرايين الهيكل السياسي وتدعمه وتجدده وتطوره، من خلال تداول سلمي لمواقع المسؤولية، وربما تكون هذه الظاهرة أحد أسباب الأزمة الراهنة في العراق!
وامتداداً لهذه الظاهرة، فإن لغة التفاهم بين الحكام والجمهور الشاب المتعلم تكاد تكون منقطعة، أو(خارج التغطية) حيث يصعب على بعض القادة السياسيين مخاطبة الناس بلغة طبيعية، ويعاني بعضهم من صعوبة في الحديث أو التعبير عن أفكار بسيطة، يمكن لرجل الشارع العادي أن يجيدها بلباقة مدهشة!
ثمة عجز في التواصل والتفاهم نراه واضحاً في لغة الإعلام، الذي يقوم على التمجيد المفرط لرموز السلطة، وتبنّي الرأي الواحد، وتحريم الرأي الآخر، والاعتماد على مسار عمودي رأسي، يتلقى (الأوامر) من قمة القيادة السياسية، ويبلغها إلى الناس، عبر جهاز إعلامي رتيب، في حين وجد ملايين الشباب فرص التواصل(الشبكي) متعدد الخيارات، لا يعرف الحواجز، حيث يمكن تغيير(القنوات) بلمسة زر صغير، والإبحار، في شبكة الإنترنيت، ضمن فضاء معلوماتي من دون حدود
أو قيود.
هذه الفجوة في التواصل، بين الحكام والمحكومين، جعلت الخطاب الرسمي يتردد في واد، والناس يعيشون في واد آخر، ومن ثم فإن الحقيقة المطلقة التي يزعمها الحكام أصبحت موضع شك وانتقاد ورفض أحياناً!
يضاف إلى تلك العناصر، وربما يحركها، وتبذير في الثروات، وتزوير في الانتخابات، وقصص فساد معلنة، لا يمكن التستر عليها، وكل ذلك يشكل مادة افتراضية ساخنة تتناقلها المواقع الالكترونية ويتبادلها الشباب من دون رقابة أو قيود، فتزيد من لهيب
النفوس!
إذا كان الخطاب الإعلامي التقليدي الرتيب يفتقد الحوار والإقناع فإن زيادة مساحة الإبداع في التواصل واعتماد الكفاءات الشابة في إدارة عملية التفاهم بين السلطة والجمهور سوف يطفئ فتيل التوتر ويبرد الاشتعال في قلوب الكثير من الشباب المتحمسين الذين يسيطر عليهم الغضب نتيجة القطيعة والجمود في لغة الخطاب السياسي!