ثلج وجارة فنلندية

آراء 2020/02/11
...

نوزاد حسن
 
قبل أيام اتّصلت بي أختي المقيمة في فنلندا، وهي تضحك كما يقال بقلب صاف، وأخبرتني أنّها مرّت بموقف عجيب لم تكن تتوقعه. خلاصة الموقف الغريب العجيب أنّ جارةً فنلندية تسكن على بعد مئات الأمتار من البيت الذي تسكن فيه أختي، طرقت عليها الباب، في الساعة الثانية عشرة مساءً، وحين فتحت أختي الباب شاهدت جارتها الفنلندية تحمل زوجين من أحذية تُلبس عادة بعد أن تُغطى الشوارع بالثلج لأنها تقي الأطفال خاصة من السقوط في ما لو يلبسونها. أوضحت الجارة الفنلندية لأختي أنها شاهدت استمرار نزول الثلج وارتفاعه في الشوارع لذا فكرت أن تأتي بهذين الحذءين لطفليها. دهشت أختي وشكرت الجارة الفنلندية بامتنان، وحين روت أختي لي هذه الحادثة أحببت الثلج أكثر مع أني أُحبّه منذ زمن، وكنت أسير ساعات طوال، في شتاءات دهوك، وحيدا تحت سياط بردٍ وثلجٍ يهرب الناس منه في العادة.
  سألت أختي: هل يزعجكم نزول الثلج؟ أجابت: كلا، إنه جزء من طبيعة فنلندا. ما أود توضيحه أن أختي لم تغير شيئا من طباعها التي تربت عليها. إن بقايا آثار شمس تموز وآب ما زالت في ذاكرتها. لكن كل شيء يتغير حين تكون الحياة خاضعة لقانون صارم ترسمه سياسة رشيدة لا تجامل أحدا بأيّة حال من الأحوال.
  في الواقع هناك رسالة واضحة أرسلتها تلك الجارة الفنلندية التي خرجت في ظلمة باردة مزعجة لتعطي امراةً عراقية هذه الهدية، وهي تضع في حساباتها أن أحد هذين الطفلين، أو كليهما، قد يتعرضان للأذى. دعونا نبحث عن الرسالة ونحن نواجه موجة برد جاءتنا، كما قيل في بعض التقارير، من 
أوروبا.
 أظن أن السياسة كما أفهمها تصنع أشخاصا من هذا الطراز الرائع. لكن متى تصل السياسة إلى هذا المستوى فتقوم بصناعة أمزجة مواطنيها كي يكونوا أكثر إنسانيةً وشفافية؟ يحصل ذلك حين يشعر الفرد بأن مؤسسات دولته تعمل في خدمته، وتمنحه كرامة وأملا ومستقبلا.
  ولأني أعيش منذ عقود أخطاءً وحروبا عديدة، عند مجيء البعث إلى السلطة، ثم دخلت إلى تجربة جديدة تماما بعد العام 2003، حدث فيها ما حدث من محاصصة وفساد، فأنا أعرف جيدا نوعية المزاج التي تحمله تلك الفنلندية الرائعة.
  يظن بعضهم أن الحكومات الفاسدة تدمر الثروات التي هي ملك جميع المواطنين. هناك ما أخطر من هذا التدمير، وأعني به تدمير عقل المواطن كما صنعه الله كتحفة لا تقدر بثمن. 
وفي حالة تكرار الأخطاء وانتشار انتهاكات حقوق الإنسان والفوضى يصل الفرد إلى كآبته القاتلة.
  لو نلاحظ جميعا رد فعل من نراهم يوميا إزاء موجة البرد هذه، كيف يتكلمون؟ كيف يفكرون؟ وكيف ينتقدون؟
  إنهم يشعرون بأن هذا الصقيع هو استهداف شخصي لحياتهم، هو تهديد لا يمكن مقاومته.
  الرجفة التي نراها في الأيدي وفي الأنوف التي احمرّت بسبب هواء الصباح المثلج، يأتي من تركيزنا القوي على هذا التغير في المناخ. وهذا التركيز نابع من تركيز أقوى هو شعورنا بقوة المواجهة التي نشهدها منذ تشرين الأول، وسقوط ضحايا وجرحى. إن السياسة تشكل وعينا ورود أفعالنا.