الديمقراطية و واقعية الحوار الوطني

آراء 2020/02/12
...

علي حسن الفواز
إذا كان الفلاسفة القدماء قد وضعوا توصيفا وتفسيرا للديمقراطية، لكي تكون تعبيرا عن حكم الشعب، وعن جوهر مدنية هذا الحكم، فإن ذلك لا يعني وضع هذه الديمقراطية في متاهة التجريد، ولا حتى في تعويم استعمالاتها، بقدر ما يعني السعي إلى إبراز الحاجة إلى الديمقراطية كقيمة، وكفعل وأداء، وكسياقِ عملٍ لتنظيم الحياة السياسية والاجتماعية في المدينة / الدولة.
الديمقراطية تحمل معها قوة وجودية، وفعلا يجعلها أكثر تعبيرا عن مصالح الناس وعن حاجاتهم، لأنّها تُتيح لهم أن يختاروا، وأن يشاركوا، وأن يتواصلوا، وأن يمارسوا حقهم في الحوار الذي تؤطّره الحرية والمسؤولية والإرادة، وأحسب أنّ حقّ الحوار هو جوهر الممارسة الديمقراطية، إذ يكون الجميع أمام مسؤولية الموقف والقرار والمصير، وأمام مسؤولية البحث عن أطر وقوانين وسياقات عمل تكفل مشروعية بناء الدولة، وحماية المجتمع، مثلما تضمن حقّ المواطن في أنْ يحظى بحقوقه الشرعية والإنسانية بما فيها حق التظاهر، وأنْ يؤدي واجباته على وفق فاعلية وجوده داخل المجتمع، وضمن سياق القوانين والأعراف والقيم التي تنتظم فيها حياته وعمله، وبعيدا عن سياسات التهميش والعزل والتغالب.
منذ العام 2003 والعراق السياسي يواجه تحديات كبرى وتهديدات تعوّق مسار بناء المشروع الديمقراطي الوطني، وتوصيف الدولة الوطنية الجديدة، وأهلية المشاركة الديمقراطية في تأصيل نظامها السياسي والاجتماعي والاقتصادي، وحتى الهوياتي. ورغم ما يبدو ظاهرا في مظاهر الاختلاف والتشاكل في النظر الى تلك التحديات، فإن واقع الممارسة الديمقراطية يفترض دائما المراجعة والتقويم، ويتطلب العمل على تجديد أدوات تلك المراجعة، مثلما يتطلب العمل على إعادة النظر بكثير من الأسئلة التي تخصّ قضايا السياسة والاقتصاد والإعلام والأمن والاجتماع، فضلا عمّا يتضمنه من استحقاقات تدخل في صلب تقوية المشروع الوطني والدفاع عنه، وتأمين الامكانات الواقعية والنقدية لنجاحه، ولدعمه في مواجهة تلك التحديات التي تفرضها قوى  الـ"لا دولة" لا سيّما جماعات العنف والارهاب والتكفير والكراهية، التي كانت من أكثر مُهدِدات المشروع الوطني 
خطورة.
إنّ الحاجة إلى الحوار هي نظير الحاجة إلى ضرورة السلم الأهلي، الذي تتجسد شروطه وآلياته في سياق سعة الحوار، لا سيّما الحوار مع المختلف والمغاير والمتنوع، وعلى نحوٍ بعيدٍ عن مظاهر العنف والإكراه، وباتجاهٍ تتعزز فيه مسارات بناء المجتمع الحديث الذي يحمي الدولة الحديثة، فهذه الدولة ستفقد كثيرا من قوتها وشرعيتها وتوصيفها مع غياب المجتمع المؤطَّر بقوانين المواطنة والقبول بالآخر، وبحقوق التنوع والتعدد، وبالعلاقات الحاكمة لشرعة تلك الحقوق، بما فيها حقوق الحريات والعمل والخدمات والعيش.
ما يشهده الشارع العراقي اليوم من اضطرابات وتظاهرات واحتجاجات يعكس في جوهره وجود تلك المشكلات، فضلا عن وجود ضعفٍ عميق في التعاطي مع معالجات حقيقية لها، وهذا ما يدفع إلى  توسيع مساحة تلك الاحتجاجات، لا سيّما بين الشباب الذين وجدوا في الديمقراطية منصة للتعبير عن همومهم، وفي الحرية أفقا لممارسة وعيهم، وعبر اطلاق العنان للبحث عن فضاء تفاعلي للمشاركة في حوار وطني حقيقي، حوار يقوم على أساس التكافؤ في الفرص، وفي التواصل، وفي الكشف عن كثير من العلل السياسية والاجتماعية، التي تم التغاضي عنها، والسكوت عن المتراكم فيها.
إنّ تحدي الدولة الوطنية هو تحدي البناء الديمقراطي، وتحدي الحاجة الى الحوار الذي نسعى إليه، ونطمح أن يكون ديدنا للفعاليات السياسية والثقافية والجماعات المدنية، ليس لإنجاح المسار الديمقراطي العام وتعزيزه حسب، بل لتجاوز عقدة اللجوء إلى العنف والكراهية من جميع الأطراف، وإلى تيسير كلِّ السبل الضامنة للحوار، وللمشاركة الحقيقية، وللقبول بالنقد الموضوعي، وبما يهدف إلى 
تكريس قيم الديمقراطية في الوجدان الوطني وفي الممارسات الشعبية.