عبد الأمير المجر
ينسب للكاتب الإيرلنديّ الساخر، برنارد شو، قوله: (بارعون حين يكذبون، ولكني أكثر براعةً منهم حين أمثل أنّي أصدّقهم)!
انقسم عدد غير قليل من المثقفين العرب في ولائهم ودفاعهم في وسائل الإعلام، بين هذه الدولة الإسلامية أو تلك، من التي تعلن تضامنها مع الشعب الفلسطيني
واختلفت هذه الدول مع بعضها في طبيعة تعاملها مع القضية الفلسطينية وفي علاقاتها مع البلدان العربية، فانقسم هؤلاء المثقفون معها
أيضا!
من بين تلك الدول التي أعلنت موقفا مؤيدا للقضية الفلسطينية، تركيا الأخوانية، وصعّدت من مواقفها الرافضة لسياسات إسرائيل في العقد الأخير، أو بعد أحداث ما سُمّي بالربيع العربي، الذي كانت ضحيته أكثر من دولة عربية، لا سيّما سوريا ومصر وليبيا، وهذه الأخيرة ما زالت غارقة في مستنقع من الدم، جاء على خلفية اسقاط حلف الناتو نظامَ القذافي، أواخر العام 2011.
الشيء الذي نسيه هؤلاء المثقفون، أن الدول ليست جمعيات خيرية، وأن شعوبها لا تحمل، بالضرورة، الحماس العربي تجاه فلسطين، أو تتعاطف مع أهلها لدرجة الذهاب إلى الحرب أكثر من مرة، كما فعل العرب، سواء خسروا تلك الحروب أو ربحوها. وإنّما تبقى محكومة بمصالح شعوبها، وقراءتها للعبة التوازنات الدولية، وكيفية استخلاص منافع لها من الأحداث، أو استثمارها، وهو ما حصل فعلا مع تركيا الأخوانية، التي دخلت قلوب الكثيرين من العرب، مثقفين وغير مثقفين، من باب الموقف من القضية الفلسطينية، حتى صدق هؤلاء أنها أكثر جديّة من الحكام العرب، متناسين أنها تعترف بإسرائيل وبينهما تمثيل دبلوماسي، وهي، قبل كل شيء، عضو في حلف الناتو، ولها مصالح حيوية مع أميركا والغرب، وإن هذا يتعارض، من الناحية المبدئية والعملية، مع معاداة إسرائيل أو تدميرها! لكن هذا الطرح كان ضروريا ليقنع المغرمين بالشعارات، ولكي تدخل تركيا العالم العربي لتحقيق مصالحها، مع أنّه لا يوجد ما يحول دون دخولها، سواء بهذه الطروحات الثورية أو بعدمها، فالعرب ليس لديهم حساسية تجاه تركيا، ويتفهمون واقعها وثقافتها، وخطها السياسي المكرس، منذ نحو قرن، فما الذي يجعلها تطمع بأكثر من هذا؟ لا شك أن التغالب والتنافس الدولي والإقليمي، على النفوذ والمصالح، في البلدان العربية المربكة بسبب ربيع الخراب، هو ما دفع تركيا الأخوانية إلى تبني شعارات مستحيلة التحقق، وهي تعرف هذا تماما.
المؤسف أن هذه الشعارات الدينية تسببت بانقسامات حادة، داخل الشعب الفلسطيني وقياداته الرئيسة، وشتّت قراره السياسي، فأضعفته أكثر ممّا أعطت إليه،
وتجلت سلبيات هذا الشعار أو المشروع غير الواقعي، في تونس ومصر وسوريا وليبيا، بعد دعم تركيا جماعةَ الأخوان هناك، فعاد بالضرر على الدولة التركية، وأسهم في تأزيم علاقاتها مع تلك البلدان المهمة، ولعلها خرجت بخفي حنين من مصر، وبعدها من سوريا، وأيقنت حكومة أردوغان، أن اللعبة الدولية الكبرى، تتجاوز هذه الأحلام الطوباوية، وأن الكبار وحدهم من يحق لهم ترتيب أوراق المنطقة، ووفق مصالحهم التي قد تتوافق مع مصالح تركيا، أو قد تتعارض، وقد أثبتت الوقائع أن تركيا خسرت الكثير من مغامرتها المتمثلة بالتحالف مع أميركا والغرب، أثناء الحفلة الدموية على الأرض العربية، حتى وجدت تركيا نفسها، أخيرا، متورطة في ليبيا، غارقة في أوحالها، على أمل أن تحقق مكاسب اقتصادية في هذا البلد الغني، من خلال حكومة السراج، ناقصة الشرعية داخليا، وها هي اليوم في مأزق كبير بعد أن تحولت ليبيا إلى مستنقع، ليس فقط يهدد مصالحها هناك، بل دمر مصداقيتها العقائدية، التي استجلبت لها من قبل بعض التعاطف
العربي.
لم يكن الذين أبدوا تعاطفا زائفا مع قضية فلسطين، بارعين تماما حين كذبوا. لكن، للأسف، لم يكن الذين صدقوهم يملكون شيئا من البراعة لكي يمثلوا عليهم، لأنهم صدقوهم فعلا قبل أن يكتشفوا غفلتهم!