إعــادة الثـقــة بـالـعـمـلـيــة السيــاسيــة

آراء 2020/02/17
...

عباس الصباغ 
كانت النسبة المتواضعة لنتائج الانتخابات البرلمانية الأخيرة أصدق مؤشر على تدني ثقة الشارع العراقي بالعملية السياسية المتعثرة، وهي التي أعطاها صوته عبر صناديق الاقتراع. وهذه النسبة دلت على تصويت حقيقي بالرفض لها كونها  أحبطت آماله في تحقيق عيش كريم وسعيد، وقد أصابت المرجعية الرشيدة كبد الحقيقة حين اشترطت بأنْ تحظى أية حكومة عراقية مقبلة برضى وثقة الشارع العراقي كشرط لتمرير أية كابينة وزارية وعدم الاكتفاء بقبولها برلمانيا  وكما وصفت المرجعية مرحلة ما بعد الحراك الاحتجاجي بأنّها لن تكون مشابهة لما قبلها، ومن أجلى مصاديق عدم التشابه، كما يُفترض، هو أنّ العملية السياسية القادمة لا يكفي فقط أنها ستفرزها صناديق الاقتراع في الانتخابات التي باتت المطلب الستراتيجي والملحّ للشارع العراقي، التي  يجب أن تكون نزيهة وخالية من الشوائب والأخطاء التي شابت الانتخابات السابقة بنسخها المتعددة، وإنّما يجب أن تكون ناتجة عن اقتناع شعبي وجماهيري (وليس حزبيا) لها،  لذا يتعيّن على أيّة حكومة مقبلة، ومهما كان شكلها وطبيعتها الدستورية، في حال توليها زمام الأمور، أن تقوم، أولا، بإعادة ثقة الشارع بالعملية السياسية، وذلك من خلال إعادة ترميم العقد الاجتماعي العراقي الذي تعرّض للتشويه المستمر منذ تأسيس الدولة العراقية المعاصرة (1921) حتى الآن.  
ومن ضمن آليات إعادة الثقة تأهيلُ العملية السياسية من جديد، وعلى أسس دولتية صحيحة بعيدة عن منهج المحاصصة والتوافق التشاركي، وهو ما سبّب الخراب الشمولي باستشراء الفساد المالي والإداري في جميع مفاصل الدولة العراقية الفتية، ليكون ذلك أحد مخرجات الحراك الاحتجاجي السلمي ومن ثمار تضحيات شهدائه. 
لم يحظَ المشهد السوسيولوجي/ السياسي العراقي، طيلة عمر الدولة العراقية الحديثة، بتفعيل حقيقي وفاعل لمقاربات العقد الاجتماعي، الذي هو الآليات التي تنظِّم حياة الناس داخل المجتمع والدولة وتقنِّن علاقة الأفراد مع الدولة وفق أسس دولتية ومجتمعية صحيحة لاتخلُّ بأيّ طرف من أطراف تلك العلاقة، كما معمول به في الدول المدنية.  ومن يستقرئ تاريخ العراق المعاصر يرى أن هناك خللا كبيرا جدا في طبيعة العلاقة بين طرفي العقد الاجتماعي العراقي استغرق ذلك فترة أغلب عمر الدولة العراقية المعاصرة التي تأسست لأكثر من مرة على أسس دولتية / حكوماتية خاطئة. وطوال هذه العقود ـ قبل وبعد التغيير النيساني ـ 
لم تكن الثقة متبادلة بين السلطات، بأشكالها كافّة، وبين الشارع العراقي بألوان طيفه كافّة! ولا أبالغ إن قلت لم تكن هناك ثقة متبادلة بينهما أساسا، إذ طالما كانت هناك فجوة كبيرة بينهما، وهما طرفا العقد الاجتماعي الذي يقنّن أطراف العلاقة حسب أواصر المواطنية الصادقة، بدليل أن تلك السلطات كانت تتعامل مع الشارع العراقي تعاملا بوليسيا قائما على الحديد والنار وإيلاء المؤسسات الأمنية والاستخبارية الأولوية على بقية القطاعات، فضلا عن تكميم الأفواه ومصادرة حرية التعبير، والمؤسف له أن يستمر عدم الثقة بين الطرفين (المجتمع الأهلي والمجتمع السياسي) حتى بعد التغيير النيساني وتأسيس أول عملية سياسية منتخبة انتخابا ديمقراطيا حرا، فقد تدنت مناسيب انعدام الثقة أكثر من قبل، بسبب أخطاء التأسيس الدولتي الأخير الذي  تسبّب في استشراء الفساد الشمولي في مفاصل الدولة العراقية كافّة، والانحدار المريع في مستوى الفقر والخدمات لعموم المواطنين، وهو ما أدّى إلى الاحباط وانعدام ثقة الشارع العراقي نهائيا بعمليته السياسية ما أدّى إلى الاحتقان الجماهيري الذي تمخض عنه الحراك الاحتجاجي التشريني المستمر حتى الآن، لذا على أيّة كابينة وزارية مقبلة تتشكل وفق النتائج التي ستتولد عنها مخرجات هذا الحراك، أن تضع ضمن أولويات برنامجها الحكومي إعادة ثقة الشارع العراقي بالعملية السياسية، وأن تطرح في هذا السياق برنامجا حكوميا قابلا للتحقيق بحسب خطة زمنية معينة يضعها خبراء تكنوقراط مختصون، لتحظى تلك العملية بمشروعية ومقبولية مفقودة من زمان بعيد، وليس عن طريق وعود شعاراتية رومانسية أو مخملية تتبخر مع الزمن، أو تلك التي تبقى حبرا على ورق كالبرامج الحكومية السابقة التي كانت تستفتح ديباجاتها بعبارات السين والسوف من دون تحقيق نتائج ملموسة 
تذكر.