الـفــقــر والــوعــي

آراء 2020/02/19
...

حسب الله يحيى 
السياسة علم ندرسه ونقضي أوقاتاً غير يسيرة في فهمه واستيعابه ومعرفة تجارب الشعوب في آفاقه. 
إلا أن بعض سياسيينا لا يرى في علم السياسة سوى اشغال المواقع الأهم في الدولة، بمعنى اتخاذ السلطة المكان الأهم لتطبيق هذا العلم المحرك لآمال وطموحات الشعوب.
وفي الفهم الأعم والأشمل، إنّ هذا (الطراز) من السياسيين يرى (الجوع) أفضل سبيل لتحقيق الطاعة، وأن تغييب (الوعي) وإسقاط الأذهان في الأوهام، هو أقصر الطرق إلى القبول بكل ما تمليه إرادة السياسة والسياسيين على الشعب. وفي هذا المعنى رصد ماركس هاتين الحالتين بقوله: (الفقر لا يصنع الثورة، إنّما الوعي بالفقر هو الذي يصنع الثورة. أمّا الطاغية، فمهمته تكمن في أن يجعلك فقيراً، إلى جانب كاهن من مُريدي الطاغية، يأخذ مهمته في أن يجعل وعيك غائباً). 
هذا التشخيص الواقعي، هو ما ينبغي لنا إدراكه، شعباً ودولة، لا لأن ماركس يمثل تياراً سياسياً مقبولاً أو مرفوضاً، بل لأن ما شخّصه هذا الرجل يعد حقيقة بارزة أمامنا، ذلك أن الفقر بات ظاهرة بارزة استسلم لمشيئتها كثير من الناس، وصارت قدراً لا بد منه في مسيرة حياتهم، وأن ما يقوله الشيوخ والسادة وأصحاب السلطة والأب والأخ الأكبر، هو الذي يلزمنا بالقبول والاستسلام والطاعة، أيّاً كانت النتائج، معنا أو على الضدّ منّا، فقد وكلنا أمرنا لعالِم وخرجنا بأنفسنا ونحن في وضع سالم. هذا ما يرد وينفذ من قبل الكثيرين. إلّا أن ما ينبغي للساسة معرفته الآن أكثر من أي وقت مضى هو أن السياسة لم تعد تسير على وفق هذا المسار المختلف، فالشعوب باتت تدرك جيداً أن ثروات البلاد ملك للشعوب لا للحكام، وأن الشعوب هي مصدر السلطات التي لا يمكن أن ترث الحكم بأيّ شكل من الأشكال. 
نعم، بات الفقر إحساسَ وإدراكَ وحراكَ شعوبٍ وإنارةَ عقولٍ تتحرك مجتمعة للتغيير واسترداد الحقوق التي اغتصبت وسلبت في ليل وزمن صدئ عشنا فيه البعد عن حقيقة أن الفقر سببه تخمة الآخرين، وأن أولي الأمر أو الكهنة أو الآباء أو السلطة المهيمنة، ليست بمنأى عن تجهيلهم بحقوقهم، بل هي السبب الأساس في إعمام الجهل وسيادة الأمّيّة بين أفراد الشعوب التي يهيمنون على مقدارتها. لذلك باتت الشعوب تدرك جيدا أن الوعي واستخدام العقل وإخضاع كل شيء للمنطق والعدل والقانون، هو الذي يمكن أن يحرك عجلة الزمان حتى يكون في صالحها واسترداد حقوقها المغتصبة.  
نعم، الشعوب تعلمت، وأن ما تتعلمه هو السبيل الأفضل والأهم للتحرك والانتقال إلى حياة مرفهة سعيدة آمنة بعيدة عن الفقر والمرض والفوضى وبناء الحياة الآمنة الرغيدة. نعم، الوعي بحالة الفقر سبيل للتعبير، والوعي بأن الكاهن لم يعد حجة زمانه بحيث يملي شروطه علينا ليبقينا في منطقة السكون والقبول. الزمان تحرك، والمكان سيضاء حتماً، هذا ما ينبغي على السياسيين إدراكه جيداً.