اللامركزيّة.. حل أم مشكلة؟

آراء 2020/02/21
...

سلام مكي
 
اللامركزية، ببساطة، هي تجزئة السلطة، ونقلها من المركز الى الهامش، وجعلها بيد المؤسسات دون الأفراد أو الأقلية. وفي الدستور العراقي، كانت الفيدرالية بوصفها الشكل الأوسع للامركزية، رد فعل قوي على مركزية النظام السابق، وعلى حصر السلطة بأجمعها بيد شخص واحد، وتهميش المحافظات والمدن من المساهمة في حكم نفسها بنفسها. 
 فكانت الأقاليم، ومجالس المحافظات ومجالس الأقضية والمجالس المحلية، هي صور حية لمفهوم اللامركزية الإدارية.
وجود تلك المؤسسات، كان على أمل أن ترسّخ مفهوم الديمقراطية بشكل أوسع وأشمل، عندما تمكّن أبناء المحافظة والقضاء والناحية من المشاركة في صنع القرار، بوصفهم الأقدر والأكفأ على معرفة احتياجات مناطقهم ومحافظاتهم من المركز. وجاء تعديل قانون 21 لسنة 2008 الأخير، ليكرّس مفهوم اللامركزية ويمنح سلطات أوسع للمحافظات، عندما قرر في المادة 45، نقل صلاحيات عدد من الوزارات الى المحافظات، وترك أمر السياسات العامة للوزارات. 
ما حصل ويحصل اليوم، هو الاستخدام السيء والخاطئ لمفهوم اللامركزية، وتحويل صورها المادية المتمثلة بمجالس المحافظات ومجالس الأقضية والنواحي الى مؤسسات بعيدة عن الشارع وتطلعاته. ولعل غضب الشارع من تلك المؤسسات وعدم الرضا عنها، تجلى وبشكل واضح في أول أيام التظاهرات، عندما طالب المتظاهرون بإلغاء تلك المجالس، بشكل نهائي. وهو ما استجاب له مجلس النواب، عندما أصدر قرارا بحلها، وبعدها أصدر قانونا بتعديل قانون انتخابات مجالس المحافظات، عبر إلغاء المادة القانونية التي تنص على بقاء عمل تلك المجالس لحين اجراء انتخابات جديدة. 
وبعد تجربة الفترة السابقة، نستطيع القول إنّ النظام السياسي، فشل في تطبيق مبدأ اللامركزية الإدارية، وفشل في استثمار الآليات الدستورية والقانونية التي تمكنه من منح المحافظات والأقاليم مزيدا من الصلاحيات الإدارية التي يمكن من خلالها ممارسة الأفراد السلطة عن طريق ممثليهم في محافظاتهم. وقد شكّلت بعض الظواهر السلبية المتمثلة بقيام بعض مجالس المحافظات ببيع المناصب التنفيذية في الحكومة المحلية، والتي منحها القانون، حق إقالة وتعيين بعض مدراء الدوائر بطرق مخالفة للقانون، وهو ما ثبت لجماهير تلك المحافظات وبأدلة قاطعة. كما مثّلت حالات التنازع في الصلاحيات بين الحكومة المركزية والحكومات المحلية، والتسبب بتأخر الإجراءات الإدارية الخاصة بتعيين مدراء الدوائر بسبب الدعاوى التي تقام في محكمة القضاء الإداري في ما يخص الاعتراض على الإقالة والمحاسبة، كلها كانت دلائل وقرائن على فشل الحكومات المحلية بتحمّل مسؤولياتها القانونية في ممارسة مبدأ اللامركزية الإدارية التي نص عليها الدستور والقوانين. لقد تحول مبدأ اللامركزية الى مشكلة حقيقية، هددت استمرار سير أعمال الدولة، لدرجة أن جهات معينة كانت ترفض القيام بمسؤولياتها في ما يخص الموازنة العامة للمحافظة، ومن ثمّ، لم تقر تلك الموازنة وهو ما انعكس سلبا على الواقع الخدمي والاستثماري لتلك المحافظة. 
إنّ المشكلة ليست بالمبدأ نفسه، بل بالأشخاص، فثمة دول متقدمة، تعتمد مبدأ اللامركزية في إدارة شؤون الحكم، ولكنّها لا تعاني من مشاكل، مثلما نعاني منها الآن. اللامركزية الإدارية، تحتاج الى ثقافة خاصة، ورجال قادرين على تحمل مسؤولياتهم في إدارة شؤون محافظاتهم، وفقا لما رسمته القوانين ذات العلاقة. هذه ليست دعوة للعودة الى اللامركزية الإدارية، بقدر ما هي دعوة حقيقية لأن يكون اختيار المسؤولين المحليين، وفقا لمبدأ الكفاءة والنزاهة.
 صحيح، أنّ الوضع الحالي، أفضى لأن تحجم الدولة من صلاحيات المحافظات، بعد أن تم إلغاء مجالس المحافظات، أو إنهاء عملها، لكن الاطار العام للدولة يشير الى أن اللامركزية الإدارية هي الشكل الأول لنظام الحكم في البلاد.