نبذ العنف وبناء دولة القانون والمؤسسات

آراء 2020/02/21
...

صادق كاظم
 
يظل العنف واحداً من الثوابت التاريخية الملتصقة بالعراق قديما وحديثا من خلال حجم الحوادث الدموية الضخمة الممتدة على طول مساحات زمنية ضخمة لم تعرف البلاد خلالها هدوءا او سِلما إلّا خلال فترات زمنية قصيرة جدا. إشكالية العنف الدموي وممارسته سلوكيا سواء من الافراد او الحاكمين يظل واحدا من الاشكاليات التي تلاحق البلاد واهلها من دون وجود تفسير او سبب يبرر هذا التراكم العنفي الهائل المتجمع في العراق او يسمح بايقافه واستبداله بسلوكيات بديلة تجعل من الاستقرار بديلا ناجحا لاعادة بناء نفسية وسلوكية المواطن العراقي صوب سلوكيات تبتعد عن العنف.
دوامة العنف ودورتها المتواصلة والمتلاحقة طيلة الفترات والعصور تركت بالتأكيد اثرها في السلوك العراقي بشكل رواسب نفسية عنفية كانت تنتظر الوقت المناسب لتسكب هذا العنف صورا دموية مؤلمة وخطيرة تمثلت في مشاهد تاريخية مروعة من اعمال السحل والتقطيع والحرق للجثث في معظم الاحيان كما حصل للأسرة المالكة صبيحة يوم الرابع عشر من تموز من العام 1958 والتي تعرضت لابشع عملية تمثيل وابادة في التاريخ عندما لم تنجح السلوكية المسالمة للملك الراحل فيصل الثاني في تجنيب الأسرة المالكة لمصير لم يكن يتخيله ابسط المواطنين حينذاك، نظرا لخلو سجل الأسرة من اية ممارسات او سلوكيات عنيفة تجاه خصومها باستثناء اعدام العقداء الاربعة خلال احداث مايس من العام 1941 والتي جاءت ردا على محاولة الانقلاب التي قام بها هؤلاء الضباط الذين كانوا يديرون المشهد السياسي والعسكري وقتها، فضلا عن الطبيعة الدموية لحكام نظام البعث المباد الذين تفننوا في ارتكاب الوسائل العنفية الاجرامية تجاه ابناء الشعب العراقي من خلال استخدام الاسلحة الكيمياوية لابادة سكان المدن او جلب آلات فرم الاجساد وتقطيعها في السجون والمعتقلات السرية و كذلك نقل الامراض المعدية الفتاكة كالسل والطاعون والجرب الى اجساد المعتقلين المعارضين وهي تصرفات تكشف العقلية الاجرامية السلوكية لنظام لا يفكر إلّا بإبادة خصومه والقضاء عليهم بشكل نهائي.
هذا السلوك العنفي الذي تزدحم به صفحات كتب التاريخ قديما وحديثا والممتدة عبر اكثر من 5000 سنة تقف عدة اسباب وراء اشاعته واعمامه، فهو تارة مسلط على العراق شعبا وارضا من قبل غزاة اجانب تدفقوا على ارض العراق؛ نظرا لخصوبة ارضه وموقعه الجغرافي المتميز الذي يربط قارتي اوروبا واسيا وصولا الى الهند كطريق مختصر وهو ما يفسّر تعاقب هذه الاقوام الغازية تاريخيا على ارض العراق وقيامها بسكب عنف هائل على الشعب العراقي من اجل ارغامه واخضاعه وهو ما جعله يتأثر بموجات العنف تلك التي تحولت الى سلوك ملاصق له، فضلا عن أنّ موجات الغزو تلك ادت الى تدمير العديد من الحضارات والمدن التي كانت موجودة آنذاك وتعرض سكانها الى الابادة مما جعل هذا التأثير الحضاري ينحسر ويتراجع تلقائيا لصالح الموجات البدوية التي وجدت في تخوم المدن وحافاتها الصحراوية ملاذا آمنا لها يجعلها تمارس أعمال السرقة والنهب والسطو ضد سكان المدن مما حرم المدن في العراق ومنذ تلك الفترة من فرصة كبيرة للتمدن والتطوير والتحضّر بعيدا عن مفاهيم البداوة وقيمها المبنية على العنف والسلاح ورفض الاحتكام الى القانون والنظام. يحمل الدكتور علي الوردي الذي يعد من اشهر علماء الاجتماع ليس في العراق فحسب بل في المنطقة، الاحتلال العثماني التركي المسؤولية عن تراجع المدنية والحضارة في العراق امام موجات البداوة التي غلبت على الاراضي في العراق، حين انشغلت بجمع الضرائب وتركت الامور على حالها من دون ان تسعى الى محاربة الجهل والأمية والتخلّف ومحاربة الفقر وفرض النظام والقانون الذي كان سيسهم حتما في تطوير المجتمع وتمدنه بدلا من حالة الفوضى التي اشاعتها تلك السلطات واسهمت في تعميق البداوة في المجتمع العراقي والتي فرضت قيمها عليه بين مد وجزر واعاقت تطور المجتمع العراقي وتقدمه، وكانت حتما ستسهم – لو أرادت - في التخلص ولو تدريجيا من قيم وروح البداوة التي تروج لثقافة العنف والانتقام والسلاح التي تركت بصماتها وتأثيراتها السيئة والسلبية على المجتمع العراقي طوال الفترات اللاحقة.
إنّ نبذ العنف والتخلي عن ثقافة السلاح وحلّ الامور عن طريق العنف فقط دون الحلول السلمية الاخرى التي يتم اللجوء اليها تحتاج الى اسس ومقومات يتم من خلالها ترميم الوعي الجمعي من خلال بناء الدولة والقانون والمؤسسات وتعميمها كحالة مرجعية راسخة يتم الاحتكام اليها، فضلا عن ضرورة ان يعمل قادة البلاد وزعماؤها على إشاعة هذه القيم وترسيخها عبر الالتزام بالقانون واحترام مؤسساته من دون التجاوز عليه او تجاهله او فرض قوانينهم وسلطتهم الفوقية على القانون والمجتمع، مثلما يحصل في الدول المتقدمة التي يلتزم افراد شعبها بالنظام والقانون ويعملون على احترامهما بدءا من أرفع مسؤول ونزولا الى أقل مواطن في الشارع.