العمارة في الثلاثينيات .. تاريخ ومشاهدات

ثقافة شعبية 2020/02/22
...

جعفر عبد الأمير لبجة
ما اجمل الحديث عن مدن العراق قبل ان تشملها التطورات الحضارية والتغييرات العمرانية، فهو حديث ممتع يجمع بين الذكريات العذبة و التاريخ بكل ما يضمه من مشاهد الحياة في الأجيال السابقة. والإنسان مهما بلغت به تطورات الحياة، فان حديثه عن حياة آبائه أو أجداده، انما هو في حقيقة الأمر تجديد للحديث التاريخي، والعراقيون اليوم شغوفون بالحديث عن الماضي (الزمن الجميل) بخيره وشره، ببؤسه وغناه، لأسباب سياسية واجتماعية واقتصادية لا تخفى.
الكتاب الذي بين يدي، صدر ببغداد سنة 1939، ومؤلفه من أدبائنا المنسيين. وهو المرحوم عبد الهادي الجواهري، شقيق الشاعر الكبير محمد مهدي الجواهري، وهو من التربويين العراقيين الرواد، فقد شاءت وزارة المعارف ان تصدر قائمة التنقلات بين ملاكها التعليمي، ويشاء حظ الجواهري ان تكون مدينة العمارة في جنوب العراق، مكان عمله التعليمي، وكان ذلك سنة 1938، وكانت المدرسة باسم (المدرسة 
الأدبية).ولعل المؤلف قد وجد متسعاً للكتابة عن مدينة و (لواء) العمارة التي أحبها عن بعد أولاً. ثم وجد نفسه في خضمها. ليسجل لنا مشاهداته وبحثه عن العمارة ومدنها وقراها وعشائرها ومشايخها الكرام، تسجيلاً دقيقاً يجمع بين البحث التاريخي والذكريات الجميلة والمشاهدات 
التأملية.
وجعل مدونته الرائعة تحت اسم جميل: العمارة، بلد الوحي والنعيم، وهو (كتاب يبحث في تاريخ العمارة القديم 
والحديث)، وهو اسم ثانٍ لهذا التسجيل القيم الذي استهله بمقدمة عن رحلته من بغداد الى العمارة التي بدأت في تشرين الاول 1938، وما تكبده من عناء السفر بين طريق غير مستوٍ وسائق لا يبالي بحال ركاب سيارته. وكانت هذه المقدمة من طرائف هذا الكتاب 
الرائع.ولما كان حديث المؤلف عن مدينة العمارة في أواخر ثلاثينيات القرن الماضي، فلا غرابة أن يؤكد ان في العمارة جمالاً ضائعاً بين فوضى المدينة وغياب النظام، فالعمارة هي شبه جزيرة بين انهار دجلة والكحلاء و المجر وغيرها من الانهر التي تنبع كلها من نهر دجلة الأصلي. ويذكر ان ساحل النهر على طوله وجماله في المدينة كان يشهد جلبة وضوضاء لرسو السفن المختلفة و انزال أو نقل حمولاتها، وكان يرى هذا كل يوم إذ كانت مدرسته التي تقع في المدينة نفسها غير بعيدة عن مشاهدته تلك.تحدث المؤلف طويلاً عن حياة الناس في مدينة العمارة، وهو بلا شك شاهد عيان على ذلك، ما يضفي مع كتاب صفة الوثيقة الشاملة التي لا يستغنى عنها عند الحديث عن العمارة في النصف الأول من القرن الماضي.
ولم يغفل الجواهري عن دور متصرف العمارة يومذاك المرحوم ماجد مصطفى، وهو شخصية إدارية حازمة في تجديد المدينة وفتح ما يمكن فتحه من الشوارع والاحياء. حتى أن أحد أحياء المدينة الشهيرة. 
ويدعى (الماجدية)، نسبة الى هذا المتصرف الذي اراد توسعة مدينة العمارة القديمة. وان يمدها الى ما بعد نهر (الكحلاء) الذي كان عائقاً أمام تقدم المدينة 
غرباً.والفصل الثالث من الكتاب، وهو أطول فصول الكتاب، فقد استغرق الصفحات من 25 الى 70، فقد كرسه المؤلف للحديث عن عشائر لواء العمارة وزعمائها التاريخيين، أمثال عشائر البو محمد وآل ازيرج وبني لام والسودان وبقية العشائر. وهو حديث تاريخي اذ جمع بين الحديث عن الزعامة العشائرية والحديث عن العديد من الوقائع التاريخية، ولاشك ان المؤلف استقى معلوماته من تلك الزعامات الكبيرة. وعند حديثه عن شيخ عشائر بني لام الشيخ غضبان البنية قال
 (ص 58):
" انتهت رئاسة بني لام الى الشيخ غضبان والد حاتم الموجود اليوم وكان غضبان من البأس و الجاه والهيبة ما كان يخشى بأسه زعماء العشائر وكذلك كان شأن الحكومة العثمانية 
معه. 
وقد عمت رئاسته وذاع صيته في الارجاء حتى ان الشيخ خزعل أمير المحمرة كان يخاف منه فعمد الى حيلة سجنه بها ... وله مواقف وحروب عديدة كان فيها البطل المغوار وقد ظل نجمه ونجم عشيرته 
ساطعاً..."
ويصف المؤلف قبيلة بني لام بأنها من القبائل العربية الحريصة على تقاليدها وعاداتها وشمائلها العربية، وزعيمها يومذاك (سنة 1938) الشيخ شبيب المزبان النائب في المجلس النيابي وهو من الزعماء الذين تعترف بزعامتهم جميع عشائر العمارة على اختلاف نزعاتهم وهو يمتاز بصفات نادرة المثال ويتمتع بثقافة عالية ومنطق بليغ وذكاء مفرط .. وإذا جالسته فلا تود ان تفارق مجلسه لعذوبة كلامه ورقة حديثه.والفصل الرابع من الكتاب فصل فيه المؤلف الحديث عن لواء العمارة بشكل عام من الجوانب الجغرافية والاقتصادية والادارية والحكومية بجميع مفاصلها، والفصل هذا تقرير واسع عن الجانب الرسمي للواء العمارة في تلك الفترة التأسيسية من تاريخ 
العراق.
أما الفصل الخامس فقد عرض المؤلف للحياة الأدبية والاجتماعية في العمارة. ذاكراً تطور الصحافة في العمارة ورجالها الرواد أمثال أنور التحافي وعبد المطلب الهاشمي ومحمود كمال المحامي وعبد الهادي 
السعيد. وانهى الكتاب بفصل سادس عن الاسر والبيوتات التجارية والاجتماعية الشهيرة في العمارة يومذاك امثال آل الخضيري والبدراوي والعرس وزلزلة والانصاري والنقدي، وهذا الفصل جدير بالتأمل فقد كانت العمارة يومذاك موئلاً لجميع 
مكونات العراق الاجتماعية والدينية، وبهذا يكون هذا الكتاب جدير بالتنويه والتذكير، وأحسن الناشر الذي أعاد طبعه على هيئته الأولى التي ظهرت سنة 
1939. وبعد ان بينا محتويات هذا الكتاب الذي يبحث عن تاريخ العمارة لكاتبه القدير عبد الهادي الجواهري لابد لنا من وقفة قصيرة نذكر فيها أهمية الصحافة في التعريف بتلك الكتب في مختلف مجالاتها الادبية والتراثية والفلسفية ... 
ألخ. وكذا التعريف بمؤلفيها وذكر سيرهم الشخصية وتقديمهم للقارئ سواء أكانوا من المعروفين ممن لهم باع طويل في مجال عملهم أم كانوا شبابا في بداية حياتهم المهنية والمعرفية.. 
وهنا كان لزاما علينا ان نذكر أولئك الكوادر الصحفية الذين كان لهم شأن وأي شأن وهم يعملون بجد وكأنهم خلية نحل وعلى رأسهم نقيب الصحفيين العراقيين ورئيس اتحاد الصحفيين العرب ومما لاشك فيه فأن هذين المنصبين يدلان على علو كعب هذا الرجل .. انه الاستاذ مؤيد اللامي الذي عرف بتواضعه وسمو أخلاقه ونكرانه لذاته ومتابعته لأدق تفاصيل العمل الصحفي وحضوره للعديد من المنتديات الادبية والاعلامية وتكريمه للكثير ممن ابدع في مجال 
عمله .. ويكفيه فخراً انه ظل علامة بارزة في تاريخنا الصحفي وسيظل كذلك انشاء الله خدمةً لصحافتنا 
وصحفيينا.