البطالة في عتمة الانفجار السكاني

آراء 2020/02/28
...

رزاق عداي
 
كانت نظرية الانفجار السكاني لماثيوس في الربع الأخير من القرن التاسع عشر، هي المهيمنة على الخطاب الاقتصادي، والقائلة إنّ النمو السكاني يتحرك بمتوالية هندسية، والغلة الغذائية تنتج بمتوالية عددية، أي أنّ البشرية ستواجه نقصا فادحا في الغذاء.
لكن هذه النظرية لم تصمد طويلا لما تتسم به من منطق ساكن؛ فكلا طرفي المعادلة، السكان والغذاء، في حالة من الثبات من دون تأثّر بأيّة عوامل أخرى، وهذا ما يمثل تركيبا وحالا يقف على الضد مع ما يتسم به النظام الرأسمالي ذو الطابع الديناميكي المتغير، الذي تتعرض فيه المنطوقات إلى التفعيل والانزياح، وقد اقترن هذا وتزامن مع التقدم في مجال النظريات العلمية والمنجزات التكنولوجية، فما أن تغلغلت الابتكارات التكنولوجية وأحدثت ثورة  في مفاصل الحياة الرأسمالية الصناعية حتى تفككت نظرية الانفجار السكاني وتهافتت، ولم يعد هناك خطر غذائي  مهدد، وحصل بدل ذلك كساد سلعي في مجال الصناعة الغذائية.
والحقيقة أن القطيعة المعرفية في مجال الخطاب الاقتصادي حصلت في السنوات الأخيرة من القرن التاسع عشر، مع تجربة اليابان التي نهضت على ركام علاقات إقطاعية، ودولة مهددة من قبل دول كبرى، فكان على اليابان أن تخوض تجربة الحداثة الاقتصادية، رغم أن الحياة الاجتماعية اليابانية كانت مشدودة إلى قيم ومفاهيم متجذرة ومتجمعة حول ذاتها، لذلك كانت لحظة الانطلاق صعبة جدا وتحتاج لمزيد من الإرادة، فانفتحت  أولا على الخبرة الأوروبية، مستفيدة بأكبر قدر من الابتكارات العلمية والمعارف المهنية الميدانية، ثم كان النهوض الياباني لاحقا أنموذجا مثيرا عندما قطت اليابان أشواطا في التقدم الاقتصادي والتكنولوجي والذي راحت تنافس به دول أوروبا والعالم المتقدم. وفي لحظة لاحقة، وعند منتصف القرن العشرين، كانت نظرية الانفجار السكاني القديمة، تجد نفسها في وضع معاكس تماما مع منطلقاتها، خصوصا في تجربة الصين، التي مثلت التجربة الصاخبة عند نهاية القرن، إذ إنّها حققت أكبر تجربة تشغيلية في التاريخ، فالشعب الذي عدد سكانه مليار وربع المليار، يحقق تشغيلا كاملا لليد العاملة، وينجز تقدما اقتصاديا باهرا، ليطارد القوة الأولى في العالم، أميركا، حتى أن أحد الاقتصاديين الصينين سمح لنفسه الاعتقاد بأنّ بلادة ستكون مضطرة إلى استيراد اليد العاملة بحلول العام 2025.
وهناك تجارب عديدة حصلت في القرن العشرين في شرق آسيا (دول النمور) وفي الهند وفي البرازيل من أميركا اللاتينية، أكدت أن الدول التي تملك كثافة سكانية عالية هي الأقرب الى الحداثة الاقتصادية والتقدم الانتاجي خصوصا، مقرونا بثورة تشريعية تتيح أكبر قدر من الفرص الاستثمارية في كل الحقول الاقتصادية.
كما أن هناك دولا انطلقت من ممكنات ومقومات ضئيلة وفقيرة، لتشكل بعد حين تجارب وريادات تحديثية هائلة في القرن العشرين، مثلما تم في كوريا الجنوبية وسنغافورا اللتين أصبحتا مثالا استثنائيا لإرادة التحديث.
والآن أين يقف العراق النفطي، ذو العائد المالي الكبير نسبيا، والمصنف الثاني في أوبك، في هذا السباق الدولي، وهو يسجل بطالة تزيد على عشرين بالمئة من عدد السكان؟
يتردد مؤخرا أن هناك في موازنة 2020 عجزا قدره أكثر من أربعين ترليون دينار، يعزوه المسؤولون الرسميون الى تمدد في حجم الانفاق التشغيلي الذي أقدمت عليه الحكومة الأخيرة، مشكلا عبئا على الموازنة، ومؤثرا على الموازنة الاستثمارية، وبهذا يكون العراق مستمرا في التحرك في مسار معاكس لأفق التقدم، وبعيدا عن تحقيق أرضية قوية وراسخة في مجال القوة الاقتصادية، بخلاف دول إقليمية أقل منه مواردا وامكانيات مالية، فمصر التي لا تملك أي عائد نفطي يذكر، وعليها مديونية إلى صندوق النقد الدولي، وتواجه خطر الجماعات المتطرفة، حققت المعجزة الاقتصادية لسنة 2019 حسب تقرير صندوق النقد الدولي، إذ حقق معدل النمو لديها المرتبة الأولى في العالم بنسبة ثمانية بالمئة، وهو معدل لمعادلة رياضية  تخص المتحقق من عائد الاستثمار (الصناعي على وجه الخصوص) في البنية التحتية مقارنا مع سنوات ماضية.
في العراق لا تحتسب عوائد النفط نموا اقتصاديا مهما بلغت كمية هذه الأموال، كونها أموالاً ريعية، وليست من مصدر استثماري، فضلا عن أن هذه العوائد المالية توجه وتصرف وبنسبة كبيرة نحو الرواتب والأجور، طبعا وما يهدر منه.
النظريات الحديثة في مجال السكان التي بات يشتغل عليها في أغلب اقتصادات العالم اليوم هي غائبة عن التوظيف والاستخدام في ظل فوضى وعجز تخطيطي عارم في العراق، والذي أنتج تخلفا في الاستثمار في البنية التحتية، وبطالة تتراكم سنة بعد أخرى. 
الذي ينقص حكومات العراق المتعاقبة  هو وعي التحديث أولا وإرادته، أمّا المقومات فهي متوفرة وفائضة.