الإقطاعيَّة السياسيَّة في الدول العربيَّة

آراء 2020/02/28
...

حكمت البخاتي
 
لا شك أن عناصر البنية الداخلية للدولة هي أكثر من ضرورية لأنها شرط التمكين في بناء الدولة، وأن المتغير السياسي الدولي الصاخب في امتلاك زمام المبادرة في رسم حلقات العبور والمرور الى مستوى الدولة صار الضرورة القصوى في إدراك هذا المستوى، فلم تعد الدولة في تكوينها ووجودها تكتفي بعناصر البناء الداخلي وميكانزمات التكوين المعهودة في الدولة التاريخية بل أمست حين لاتحظى بهذا القبول الدولي فإنها فاقدة لركن أساسي في وجودها كدولة ذات ماهوية حقيقية، وبهذا يتحول القبول الدولي في ظل هذا المتغير السياسي من مجرد ضرورة قصوى الى شرط يكافئ شروط عناصر البناء الداخلي.
لقد كانت الدولة تتبلور في تأسيسها ووجودها من الداخل الجيوسياسي المتعلق بالجغرافيا والديمغرافيا والاقتصاد ومن ثمّ السياسة وهي العناصر الدافعة الى تأسيس الدولة التقليدية وصولا الى الدولة الحديثة وقد استقرت تلك المعادلة التي يصح وصفها بالتاريخية منذ فجر تاريخ ظهور الدولة القديم الى تلك التطورات التي أعقبت الحرب العالمية الأولى وما أنتجته من المتغير السياسي التاريخي والدولي فتكونت خارطة متسعة من الدول التي تشكلت بإرادة دولية وقرارات أممية سنتها عصبة الأمم المتحدة في أعقاب الحرب العالمية الأولى ثم هيئة الأمم المتحدة في أعقاب الحرب العالمية الثانية، وهكذا دخل الاعتراف الدولي شرطا أساسيا في تكوين الدولة وتأسيسها واسباغ وجودها بالاعتراف الرسمي لغرض تمكينها من البقاء في الهيئات والمؤسسات الدولية التي تترجم الاعتراف الرسمي بها الى واقع في الظهور العملي لها كدولة ذات سيادة وقرار مستقل.
لقد صنعت تلك العملية التاريخية والسياسية بآن واحد العديد من دول العالم الثالث ولعلها كلها في آسيا وأفريقيا وأميركا الجنوبية، وأستُثْنِتْ من هذه المعادلة التاريخية والسياسية دول في أوروبا الغربية كان لها الدور والأساس الفاعل في تشكيل دول العالم الحديث وهي بريطانيا وفرنسا والى حد ما ايطاليا واسبانيا، بينما خضعت دول أوروبا الشرقية الى تدخل الاتحاد السوفيتي بعد الحرب العالمية الثانية في تشكيل أنظمتها ورسم حدودها.
ومن الأهمية التاريخية بمكان أن نعرف أن دول أوروبا الغربية التي ظلت تهيمن على المراكز السياسية والاقتصادية المهمة في العالم الحديث وهي بذاتها تشكل بعض الدول منها العظمى التي شكلت دول العالم الحديث كانت تمر بالدورة التاريخية ذاتها، فقد تشكلت هذه الدول في أعقاب الحروب المذهبية التي عرفت بحروب الثلاثين عاما في القرن السابع عشر الميلادي من العام 1618 م الى 1642م وشاركت فيها فرنسا وألمانيا والسويد واسبانيا وهولندا والدنمارك بانقساماتها الكاثوليكية والبروتستانتية واسبابها المذهبية وغاياتها السياسية، فقد رسمت مباشرة بعدها الحدود السياسية بين دول أوروبا وتضمنت اعترافا متبادلا بين هذه الممالك الأوروبية بالحدود التي وضعت في أعقاب هذه الحروب.
مما يؤشر أهمية المتغير السياسي الدولي في تأكيد وتثبيت حدود وسيادة الدولة في التاريخ الحديث من خلال الاعتراف الدولي الذي ينبثق عن أوضاع وحقائق على أرض الواقع في ما يتعلق بالشأن والوضع السياسي للدولة الحديثة، وهو ما ينطبق بحذافيره على الدولة العربية الحديثة التي رسمتها وحددت مواقعها إرادات واتفاقيات دولية انضوت في المتغير السياسي الذي أعقب الحرب العالمية الأولى.
 لكن الاعتراف الدولي والرسمي بالدولة الحديثة ومنها دولتنا العربية الحديثة لا يمنحها مناهج الديمومة والبقاء كأمر واقع وسياسي مضمون المصير كدولة تستوفي شروطها الخاصة بها في بنيتها الداخلية بل يقتضي تفكيك البنى الإقطاعية القديمة التي تشكل حدا فاصلا بين مجتمع ما قبل الدولة ومجتمع ما بعد الدولة فالإقطاعية مرحلة تاريخية حاسمة وأخيرة في مرحلة ما قبل الدولة الحديثة.
والاقطاعية التي مرت بها مجتمعاتنا وترسّخت وتائرها في ذاتنا وبما تحمله من موروثات اجتماعية وثقافية واقتصادية ظلت تشكل عائقا بنيويا بين مجتمعنا وبناء الدولة الحديثة، فهذه الدولة تلجأ الى القانون لإشغال المساحات الفاصلة بينها وبين المجتمع وبذلك تحشر المجتمع في بوتقة الدولة بالقسر واحتكار القوة الذي بررته الدولة الحديثة بالمشروعية في امتلاكها هذا الحق وهو ما يصطدم بالعقلية الإقطاعية التي تهيمن على تفكير مجتمعنا في امتناعها على الاعتراف بهذا الحق المشروع للدولة بشكل تطوعي وهو ما تريده الدولة الحديثة، بينما تصر العقلية الإقطاعية على الاعتراف به تحت ضغط فكرة القوة والحاجة الى هذه القوة في معاملة الذات كأبرز موروث إقطاعي انغرس عميقا في ذاتنا تعود بدايته التاريخية الى العصر العباسي الأول حيث بدأت باقطاعات الأمراء وقادة الجيش ليبقى ميراثها السياسي والاجتماعي في عصر الدول الأعجمية البويهية والسلجوقية بعد انسحاب العرب من السياسة والحواضر وابتداء من القرن الخامس الهجري وبعدها استولى الأتراك على ميراث النظام الاقطاعي ليتقاسموه هم والمماليك في البلاد العربية لاسيما في العراق وبلاد الشام ومصر ليستمر على حاله ومع سياسة التوطين لقبائل البدو التي اتبعتها الدولة العثمانية تمّ ترسيم النظام الاقطاعي بشكل رسمي لتبقيه السياسات الاستعمارية لبريطانيا وفرنسا وتكرّسه نظاما  اقتصاديا أنتج أنظمة اجتماعية ظلت فاعلة في الحياة العربية الى نهاية عصر الملكيات في دولنا لتتحول الى اقطاعيات سياسية في عصر الجمهوريات العربية لتظل تلك الاقطاعيات السياسية ومن قبلها الاجتماعية العامل البنيوي المعوق لكل مبادرات التنمية والتطوير التي شهدتها دولنا العربية منذ عشرينيات القرن العشرين فهي ظلت دائما تصطدم بالتركيبة الاقطاعية لعقلنا العربي الذي تترسّب فيه مقولاتنا وأفكارنا وثقافاتنا.
إذ لم تتوقف سلوكيات الذهنية الاقطاعية كاقتصاد ينظم العلاقة الجائرة بين مالك الأرض والفلاح المستخدم فيها بل امتدت آثارها الى السلوك الفردي والجماعي لمجتمعاتنا في مجال العلاقات الاجتماعية وصولا الى العلاقات السياسية التي كانت في الصدارة منها العلاقة بالدولة التي أخذت تعتمد مفهوم الأبوية الحاكمة استمدادا من نظام الأبوية الحاكمة في الأسرة العربية ذي الصياغة الاقطاعية التي حلت محل نظام الأبوية الراعية ذي الصياغة الدينية في نظام الأسرة العربية الذي أراد الاسلام تكريسه، وكان من شأن نظام الأسرة ذي الصياغة الاقطاعية أن ينقل مفهوم الأبوية الحاكمة الى العلاقة بالحاكم العربي الذي بدوره نقل هذا المفهوم الى الذهنية العربية صيغة التماهي بين الحاكم العربي والدولة ولم تعد تلك الذهنية العامة قادرة على الفصل بين النظام السياسي والدولة وهو ما تسبب في سقوط الدولة العربية في أعقاب سقوط أنظمتها، وكذلك يمكن تفسير ذلك التجاوز على المال العام ومؤسسات الدولة ضمن هذه الأطر الضيقة في تماهي النظام السياسي بالدولة في تلك الذهنية التي تعد نتاجا خطيرا لم نتخلص من موروثه الاجتماعي الاقطاعي في بناءات الدولة العربية، ولعل من نتائج هذا الموروث الاقطاعي الأكثر ضررا بالدولة هو الاستحقاق الوهمي بالنسبة الى المسؤول السياسي في الدولة العربية في تمسكه بالمنصب السياسي والاداري بوصفه حقا مقتطعا له أمام امتيازاته الحزبية والاجتماعية في ظل الذهنية الاقطاعية السياسية، وهو ما تشكو منه الديمقراطيات الحديثة في الدولة العربية المعاصرة بعد سقوط أنظمتها الدكتاتورية.