كيـف ساعــدت أميـركـا بنشوب حــرب العـصـابـات ؟

بانوراما 2020/02/28
...

ويليام ويلر
ترجمة: خالد قاسم
بدأ “اسرائيل تيكاس” حياته المهنية رساما ضمن وحدة مكافحة الارهاب السلفادورية خلال الحرب الأهلية التي وقعت بين العامين 1979 و
1992. 
وتركته تلك التجربة مرتابا بالجنرالات اليمينيين وقادة الجماعات المسلحة الذين سينضمون اليهم من بين النخبة السياسية عند نهاية الحرب. لم تتعاف السلفادور منذ ذلك الحين، وبحلول العام 2015 ارتفعت جرائم القتل الى مستوى نافس ذروة الحرب الأهلية وتصنف باستمرار بين أكثر دول العالم عنفا. 
يصف تيكاس نفسه بأنه “محامي الموتى” وهو متخصص بعلم الجريمة الجنائي، اذ يحدد مكان جثث ضحايا جرائم قتل العصابات ويستخرجها، ويوثق جرائم تلك العصابات الشنيعة، إذ يتوقف خارج مبنى مكون من طابقين حيث يظهر رجال يرتدون بزات رسمية باللونين الأزرق والأبيض ويحملون بنادق هجومية، وخرجت مفرزة أمنية بسيارة بيك آب خارج البلدة متجهة الى حقول قصب السكر المجاورة وكانت وجهتهم موقعا استخدمه أفراد العصابة المحلية “أم أس 13” لغرض ممارسة الاغتصاب والتعذيب والإعدامات. والضحايا هم مدنيون ومنافسون من عصابة “باريو 18” وأفراد العصابة نفسها ممن يخرقون النظام الداخلي. 
مع صعود وهبوط النهر بتضاريس الأدغال تنتفخ الأرض وتنهار، ولذلك لم تبق الطوبوغرافيا كما كانت خلال فترة استخدام الموقع قبل سنوات عدة، ولا تسعف الذاكرة تيكاس لإيجاد مكان دفن جميع الجثث. ومع ذلك، فقد نجح بايجاد 11جثة من مجموع 21 جثة، يقول مخبره أنها مدفونة هناك. وأعطى المدعي العام تيكاس مهلة ثلاثة أشهر للعمل في الموقع ويعتقد أنه يستطيع ايجاد المزيد قبل انتهاء المهلة.
مخبر تيكاس شاب طويل ونحيف يرتدي قناعا لإخفاء وجهه، وكانت ليلة الجريمة بداية عمله في العصابة عندما تلقى مكالمة واستدعي الى الموقع. وعند وصوله طلب منه حفر حفرة لامرأة (قتلت بعد ذلك). انتقلت المرأة وصديقها حديثا الى البلدة واشتبهت العصابة بوجود مشكلة بين الشخصين و”أم أس 13” في منطقة أخرى. وبعد اجراء تحقيق أخفت العصابة الرجل، أما المرأة المنكوبة فقد واجهتهم وصرخت عليهم في الشارع وهددتهم بإخبار الشرطة، فقرروا قتلها أيضا، وهذا ما حصل بالفعل.
 
استغلال الهدنة
يدور تيكاس حول قبر المرأة مستخرجا الجذور والصخور، ويشق طريقه حول الحفرة كما لو أنه يلعب البليارد. ويبدو التجويف على شكل قارة افريقيا، وفي الزاوية السفلى على جهة اليمين (أي متخيلا موقع تنزانيا) هناك حفرة بحجم قبضة اليد. واستمر بمد يده في الحفرة الى مستوى مرفقه عندما لمس عظم حوض بشري يعود على الأرجح للمرأة القتيلة. وبعد جهد استمر لساعات كشف تيكاس هيكلا عظميا بشريا وظهر الرأس منحنيا الى الخلف، كما لو كانت بحالة تضرع.
استغرب المخبر لأنه كان متأكدا من دفن العصابة للمرأة بعمق أكبر، وتبدو أطرافها سليمة مع بعض الملابس الممزقة حولها. وهناك شيء آخر ناقص، إذ إن ضحية المخبر عانت من اصابات بالساطور في مؤخرة رأسها، لكن هذه الجمجمة تبدو سليمة. وبدلا من ذلك تبدو مقدمة الرأس مقطعة، ويستنتج تيكاس أنها تعود لامرأة أخرى مختلفة كليا وهي شخص غير موجود ضمن قائمة المخبر، وهي ثالث جثة وجدوها هناك لم يكن المخبر يعرف شيئا عنها.
وقعت جرائم القتل تلك بوسط هدنة تفاوضت الحكومة عليها بين عصابات متنافسة، مما تسبب بخفض معدلات القتل الى النصف. لكن الواقع كما يقول المخبر أن الهدنة علّمت العصابات اخفاء ضحاياها بقبور سرية، ولم يخضع تيكاس لتدريب رسمي بالطب الشرعي والكثير من الأساليب التي يتبعها اكتشفها بنفسه، لكنه ليس الوحيد ممن تعلموا خلال عملهم.
لاحظ تيكاس في بادئ الأمر أن العصابات باشرت بتقطيع الجثث لكي تناسب الحفر الصغيرة، وتجعل اكتشاف مكانها أكثر صعوبة. وبدأت لاحقا بطعن منطقتي البطن والعنق قبل دفنها بهدف اطلاق غازات تبقى محصورة بالداخل، وبالتالي تترك عملية التعفن حفرة أصغر. 
عاش المخبر في الولايات المتحدة لمدة عشر سنوات وجرى ترحيله فجأة عام 2013 بعد تفويته موعد محكمة. وفور وصوله منزل أسرته في السلفادور ظهر أفراد من عصابة أم أس 13 بباب المنزل، وأخبروه أن عليه (كما هو حال الجميع) التعاون معهم. وبدأ عمله معهم مراقبا لكنهم قالوا أنه يعرف الكثير عنهم ولذلك انضم للعصابة. يبلغ المخبر من العمر 24 سنة وارتكب 31 جريمة قتل، ويتصف سلوكه بالجدية والقبول لكن تيكاس يقول أن المخبر سيقتلهم قريبا “بيننا علاقة عمل، لكنه مريض نفسيا.”
 
مشكلة عميقة
لم يعد المخبر عنصرا مقبولا، قبل أشهر قليلة، لأنه احتسى الكحول من دون موافقة، لأن أفراد العصابة عليهم استحصال ترخيص قبل شرب الخمور ويعود ذلك الى أن الثمالة تجعلهم غير موثوقين. ونجا بعد ذلك بفترة وجيزة من كمين للشرطة، وافترضت العصابة أنه مخبر وحاولوا قتله لكنه نجا مجددا. وذهب بعد ذلك الى الشرطة وأخبرهم رغبته بإعطاء معلومات عن 20 جريمة قتل، وجرت حتى الآن 105 اعتقالات بسبب تعاونه.
اضافة الى كشف مكان دفن الجثث، يجب على المخبر ذكر الأسماء والشهادة ضد زملائه السابقين. وعلى عكس الولايات المتحدة إذ تعرض عليه حماية الشهود، فهو يعيش في السلفادور بمفرده مع أن العصابة ترغب بشدة بايجاده وقتله.
يقول تيكاس أن العصابات تثمن جهوده، لكن من السهل أن يضعه عمله بحالة تقاطع معهم، ففي مشهد من فيلم وثائقي عن تيكاس يقول أحد أفراد العصابات أنه اذا أمسكوه على حين غرة فسيدفنوه بأحد القبور التي يحفرها.
تعد مشكلة عصابات السلفادور دراسة وفق التفكير قصير النظر لدى حكومتي واشنطن وسان سلفادور على جانبي الطيف السياسي، وكانت النتائج العكسية كارثية. وفي أول خطاباته للأمة استنكر دونالد ترامب “عصابة أم أس 13 الوحشية” ودعا الكونغرس “لإغلاق الثغرات القاتلة التي سمحت للعصابة ومجرمين آخرين باختراق البلاد.”
العصابة هي تهديد الرئيس المفضل عندما يتحدث علانية لإقناع الناخبين الأميركيين بأن الهجرة غير القانونية تشكل أزمة ملحة وتهديدا للأمن القومي. وبدلا من ترحيل المشكلة فواقع العصابة أكثر تعقيدا بكثير، فقد ولدت من بيئة حرب العصابات الشرسة في لوس أنجليس وأسست أم أس 13 خلال الثمانينيات من قبل لاجئين سلفادوريين ازدادوا صلابة بسبب الحرب الأهلية الوحشية آنذاك. وتوسعت العصابة لتشمل جنسيات أخرى وانتشرت الى مدن أخرى بأميركا اللاتينية، ويبلغ عدد أفرادها داخل الولايات المتحدة أكثر من عشرة آلاف فرد ومهمة تشبه عصابات الشارع الأميركية العادية، ويقاتلون للسيطرة على الأحياء ومبيعات المخدرات المحلية.
وجدت العصابات اللاتينية في لوس أنجليس بنهاية التسعينيات آلية تصدير ردا على تزايد نفوذ أم أس 13 وحملة بيل كلنتون ضد الهجرة فقد بدأت الولايات المتحدة بترحيل السكان المولودين بالخارج من المدانين بجرائم واسعة النطاق. وأعيد آلاف المدانين الى “المثلث الشمالي” سنويا وهي جول أميركا الوسطى المتجاورة السلفادور وهندوراس وغواتيمالا، وكان من بين هؤلاء أفراد بعصابة أم أس 13 ومنافستها عصابة “الشارع 18”. وانتج الصراع بين تلك العصابات “المتأمركة” ظاهرة اجتماعية بمنطقة ترزح تحت طائلة الفقر المدقع والحروب والعنف السياسي.
 
عصابات مستوردة
امتلكت السلفادور عصابات أحياء سكنية صغيرة وغير منظمة من قبل، لكن وفقا لوجهة نظر سائدة هناك فإن تلك الترحيلات الجماعية غيرت كل شيء في البلاد. ويؤمن الكثير أن الولايات المتحدة تخلصت من مشكلتها على حساب السلفادور. وأستنزفت مؤسسات البلاد بفعل النزاع والفقر والفساد، وعاد المرحلون من شوارع لوس أنجليس وهم يضعون الأوشام ويرتدون ملابس فضفاضة وجلبوا معهم ثقافة العصابات وأساليب حروب المدن وشبكات اجرامية من السجن. 
واجتذبت العصابات ثلاثة أجيال الى دائرة متصاعدة من النزاع بلا مفر، وتصنف دول المثلث الشمالي إذ تسود هذه العصابات بين أعلى دول العالم بمعدلات القتل وتشكل 75 بالمئة من المهاجرين الواصلين للحدود الجنوبية للولايات المتحدة. ووفقا لهذا التحليل فالعصابات هي أكبر مشكلة تواجه دولا مثل السلفادور. 
سرعان ما دعمت الحكومة السلفادورية وقواتها الأمنية هذا الرأي، وتقول الحكومة أن 60 ألفا ينتمون للعصابات ويعتمد عشرة بالمئة من السكان أو يرتبطون بالعصابات في دولة يبلغ عدد سكانها أكثر من ستة ملايين نسمة.
ليس من الصعب فهم رغبة السلطات بوصف عنف بلادها بالخطيئة المتأصلة، ولذلك سمحت لنظامها بالقاء اللوم ليس على ثقافة العصابات المستوردة من الولايات المتحدة فحسب ولكن على مفاهيم مبسطة للجريمة ليس لها علاقة بالحلول السياسية الصعبة والمكلفة. ويتيح تركيز مشكلات البلاد على العصابات للحكومة ايقاف انخراطها بمشكلات أكثر الحاحا وتجذرا مثل الفساد ونقص مؤسسات الدولة وعدم المساواة. وقدّم السياسيون اجراءات عنفية وقمعية ضد العصابات قبيل كل انتخابات رئيسة، لكن الدلائل تشير الى أن سلطة العصابات ازدادت نتيجة لذلك. وهناك اعتقاد سائد مفاده ان العصابات مشكلة اجرامية وأفضل وسيلة لمواجهتها هي القوة العسكرية والأمنية.
الواقع أكثر تعقيدا، فالعنف هناك ليس نتيجة الجريمة المستوردة من أميركا فحسب، فقد تحدد دوما بإرث الحرب الأهلية وعدم المساواة اللتين عجلتا به ولكنه لم يعالج مطلقا بنتائجهما. ولذلك تتحمل الولايات المتحدة مسؤولية كبيرة، لكن لن يعالج أي منهما بقتل الشرطة لأفراد العصابات فقط أو الحبس الجماعي لهم. واذا كان هناك اجراء مفيد فهو مساعدة واشنطن للأنظمة السلفادورية بعلاج المشكلات المتجذرة التي تفاقمت بسبب الحرب ونتائجها. وأنجزت حكومات البلاد المتعاقبة القليل بمساعدة أميركية، للاهتمام بتلك القضايا بل أنها زادت هذه المشكلات سوءا.
 
ترحيل الأزمة
لا يمكن قتل العصابات أو اعتقالها بسهولة، ولن تكون عواقب تطورها المستمر مفصولة وراء الحدود الوطنية للبلاد، بل يزداد تشابكها مع تيارات العرض والطلب غير القانونية التي تربط المنتجين مع الولايات المتحدة، وهي أكبر سوق عالمية للمخدرات غير القانونية. وبينما تقود واشنطن جهود الوقاية في المكسيك وكولومبيا والكاريبي فقد دفعت طرق التهريب نحو أميركا الوسطى، وتعد رواقا لعبور 88 بالمئة من الكوكايين المتجه الى الولايات المتحدة، وبالتالي اقتربت العصابات من منظمات التهريب المكسيكية الوحشية مثل كارتل سينالوا وزيتاس، وتعمل تلك العصابات لديهما بصفة مقاولين وقتلة مأجورين.
في الوقت نفسه، سنّت ادارة ترامب نطاقا واسعا من التغييرات السياسية التدريجية لتعزيز آلية الترحيل التي ورثتها جذريا وخنق الهجرة عبر الحدود، ومن أمثلة ذلك أزالت واشنطن العنف المنزلي أو الاضطهاد من قبل العصابات كأسس لطلب اللجوء في الولايات المتحدة، وأنهت “حالة الحماية المؤقتة” التي سمحت لمئات آلاف مواطني أميركا الوسطى بالبقاء في الولايات المتحدة قانونيا 
لسنوات.
تعد السلفادور إحدى الدول الأكثر اعتمادا على التحويلات الخارجية، ويعلّق مصير 200 ألف من مواطنيها أمام المحاكم الأميركية التي تقرر اذا كان ترامب له صلاحية الغاء حالتهم القانونية. ووقعت ادارة ترامب اتفاقيات مع السلفادور وهندوراس وغواتيمالا العام الماضي تشترط على المهاجرين المتجهين الى الولايات المتحدة ويعبرون من تلك الدول أن يطلبوا اللجوء فيها أولاً (وتتيح لواشنطن اعادة أي شخص لا يلتزم بذلك.) في الواقع، يجعل هذا الشرط من المستحيل على مواطني تلك الدول طلب اللجوء لدى الولايات المتحدة، والخسارة البشرية لكل تلك التغييرات ستكون مدمرة.