المجتمع والغابة

آراء 2020/03/04
...

نصير فليح
 
عندما تصبح عبارة من قبيل "المصلحة العامة" أمراً نافلا في الوعي العام، ومن "الكليشات" لا أكثر، فإن حالة كهذه تسلط الضوء على حالة اجتماعية جذرية، يمكن للمرء أن يحفر في دلالاتها للوصول إلى جذور المجرى الاجتماعي الذي أدى الى ثقافة من هذا النوع، وأيضا، بالطبع، إلى السبل التي يمكن بها "نفخ الحياة" مجددا في هذه العبارة لتقوم من عالم الموتى، فيأخذ المجتمع بالابتعاد أخلاقيا عن صورة الغابة.
عندما تمرّ ظروف عصيبة طويلة على المجتمعات، من حروب وكوراث وبلاءات، فإنّ أجيالا معينة تتخلق على أساس العنف والمغالبة والأنانية وفقدان أيّ ثقة بالقيم. وهذا ما حصل في مجتمعنا بوجه عام، بعد كل العقود الكارثية التي مرت علينا، والصعاب الإضافية التي تنتظرنا أيضا. وهو ما يبين أهمية تكريس الممارسة الاجتماعية – لا مجرد الوعظ - إذا ما أُريد إعادة بناء إنسان تم تدميره بشكل منهجي على أمد طويل.
ولكي يكون الحديث واضح الصلة بما يجري واقعيا في مجتمعنا، لنفكر بطفل ينشأ في أعوامه الأولى، وما يتعلمه من ممارسات وقيم، ثم تحوله إلى مراحل التعليم المختلفة
، وصولا إلى مراحل النضج عندما ينخرط في المجتمع ككائن فاعل كامل الأهلية. كل المواعظ والتوصيات والتوجيهات لا تكون مجدية ما لم تقترن بممارسة اجتماعية. فلا فائدة تذكر من الحديث عن أهمية العلم والتعليم وقيم التعليم...الخ، ما لم تقترن بممارسة اجتماعية يعيشها الطفل، عندما يرى أنّ من يستحقون النجاح هم الذين ينجحون، ومن يستحقون التفوق هم من يتفوقون، ومن لا يستحقون هذا وذاك لا يحققون شيئا.وكذا الحال في مراحل الانخراط في الحياة العملية، فما جدوى الوعظ المجرد عن مساوئ الفساد والرشوة والتغالب والأنانية، بينما يرى المرء بأمّ عينه أن أصحاب هذه الممارسات السيئة بالذات هم الذي يحققون أكبر المكاسب، وينالون أعلى المكانات، ويتقرب الداني والبعيد لكسب 
ودّهم؟ 
ومن يتمسكون بالمبادئ والقيم يهمشون وتتدهور أحوالهم؟ عندها لن يكون كلام القيم سوى كلام للاستهلاك العام، حتى في الحياة الشخصية للفرد، ذلك أن قواعد لعبة "الغابة الاجتماعية" هي الفاعل المؤثر. 
ومن هنا، عندما نشدد على أهمية علنية وشفافية اجراءات مكافحة الفساد، فذلك لأنّ هذه ممارسة اجتماعية - إعلامية تصبّ في جوهر الموضوع، في العناصر المؤثرة فعلا نفسيا وأخلاقيا، عندما يتولد شعور عام بأنّ من ينخرط في ممارسات الفساد هذه، عرضة للعار الاجتماعي، والشعور بالعار الاجتماعي عنصر مهم في تكوين المجتمعات ومكانة الفرد فيه، لا سيّما في مجتمعات كمجتمعاتنا، يلعب فيها العرف الاجتماعي دورا فاعلا.
إنّ تحويل المواعظ على امتداد حياة الانسان والأجيال إلى ممارسات اجتماعية عينية، هو الكفيل بترميم واصلاح وإعادة بناء الإنسان والأجيال التي عانت من تشوهات كثيرة بفعل الكوارث والقيم التي رافقتها، وبحكم طول أمد الحقب السوداء، التي سمحت بتدهور طويل الأمد، انتج أجيالا وأخلاقيات عامة ترسخت وأصبحت من "البديهيات". وتحول قيم سلبية كهذه الى "بديهيات"، هو من أسوأ ما يحدث لمجتمع من المجتمعات على مر 
التاريخ.
ومجتمعنا اليوم يشهد منعطفات كبيرة قد تكون جذرية، ذلك أن المشكلات المتراكمة أصبحت دافعا مؤثرا جدا في الأجيال الجديدة وتطلعها الى مجتمع جديد. 
وهذا المجتمع الجديد لا يمكن فصله عن غرس قيم أخلاقية اجتماعية جديدة، حتى لو كان ذلك متدرجا. أمّا بعض الجوانب الأكثر إلحاحا وضررا وتأثيرا، مثل الفساد وهدر الأموال العامة، فأصبحت أمورا على رأس المطالب العامة وعلى رأس قوائم الاصلاح الاجتماعي والاقتصادي والسياسي المؤملة، فهل يمكن إجراء تحول جذري في هذا المضمار الاجتماعي الخطير، من دون تحول في القيم والممارسة الاجتماعية والإعلامية التي ترسخها؟ وأين يمكن أن تكون ثمة بداية مؤثرة وفاعلة في هذا التحول أفضل من علانية وشفافية اجراءات مكافحة الفساد ومحاكماته؟