المشهد السياسي الرّاهن بعد الاعتذار

آراء 2020/03/04
...

عبد الزهرة محمد الهنداوي
 
أخطاء التأسيس لا تظهر آثارها سريعا، إنما تبدو تداعياتها تتضح عند الوصول إلى مراحل متقدمة من البناء، وعند ذاك نكون أمام خيارين كليهما مزعج: فإما أن نهد البناء من الأصل، ثمّ نعيد تشييده من جديد، ونخسر كل شيء، وإما أنْ نكمل حتى النهاية، ولكن هنا علينا أن ندرك، تماما، احتمالية انهيار البناء في أية لحظة، وقد يكون الانهيار فوق رؤوسنا، فنخسر (المشيتين)!
وعندما أتحدث عن البناء إنّما هي إشارة  إلى بناء العملية السياسية في العراق التي وُضعت لبانتها الأساسية بعد التغيير الذي شهدته البلاد في العام 2003، فقد كانت ديمقراطيتنا مشوهة ومهزوزة، لأنّها لم تستند على أسس حقيقية صلدة، ولو كانت سليمة معافاة لما استغرقنا كلّ هذه السنين الطوال، ونحن في تراجع 
دائم. 
ذات يوم من أيام 2004 حدثني الاقتصادي والسياسي العراقي الراحل الدكتور مهدي الحافظ، أنّ العراق بحاجة إلى عشرة أعوام فقط لكي تستقر أحواله وينضج نظامه السياسي الديمقراطي، وفي حينها نظرت إلى الحافظ مستنكراً طول المدة، هل سننتظر عشرة أعوام لكي تستقر أوضاع 
البلد؟ 
ولم أكن أعلم أنّ المدة التي استشرفها الحافظ ستكون نهايتها بداية لمرحلة جديدة مختلفة، ففي العام 2014، تغيّرت مسارات الأحداث بنحو مخيف، فقد ظهرت لنا داعش، وما رافق ذلك الظهور، من تداعيات خطيرة، تمثلت بارتفاع مناسيب الفقر والبطالة، وتراجع النمو الاقتصادي
، وتوقف آلاف المشاريع، فضلا عن الاهتزازات السياسية والاجتماعية التي بقيت تمور مثل نار تحت الرماد.
 وإذا ما حل العام 2019، وبعد مرور أقل من عام على تشكيل حكومة انتخابات 2018، التي شابها الكثير من الجدل والشكوك والطعن، حتى اشتعلت تلك النيران المائرة تحت الرماد، منذرة بواقع جديد مختلف، وذلك عندما اندلعت موجات التظاهرات في أغلب المحافظات، وكان المتظاهرون الشباب يطالبون بتغيير الواقع بكل حيثياته، الأمر الذي أدخل العملية السياسية باختبار صعب غير 
مسبوق. 
وعلى الرغم من كون التظاهرات جاءت نتيجة تراكمات عمرها يزيد على الستة عشر عاما، إلّا أنّها عُصبت برأس حكومة السيد عبد المهدي، الذي لم يلبث طويلا حتى أعلن استقالة الحكومة، وقبل أن يستقيل دعا أصحاب الحل والعقد، إلى إيجاد البديل قبل الرحيل
، وإلّا سيدخل البلد في أزمة سياسية. 
إلّا أنّ أحدا لم يلتفت إلى ذلك التحذير، ليحدث ما توقعه السيد عبد المهدي، فبعد شد وجذب و"روح وتعال" كُلّف السيد محمد توفيق علاوي بتشكيل الحكومة الانتقالية المؤقتة
، ولأنّ ترشيحه جاء في ظروف غامضة من دون معرفة الجهة التي رشّحته لرئيس الجمهورية، وبهذا فقد الرجل الدعم والتأييد، فضلا عن استشكال أجزاء من ساحات التظاهر على 
ترشيحه. هاتان الكمّاشتان أوصلتا المكلف إلى نهايات مغلقة تماما، فلم يكن أمامه من بدّ سوى تقديم اعتذاره من المهمة، وهناك، في الجانب الآخر، أعلن الرئيس المستقيل، عن اختفائه الطوعي، تاركاً الجمل بما حمل، ومشهدا عراقيا يعجّ بالمستعصيات من 
المشكلات. 
وقطعا، إنّ الرجل لا يتحمل المسؤولية كاملة، فقد حذر من ذي قبل من هذه التداعيات الخطيرة، ولعل ما يحسب إليه انّه طالب بإيجاد البديل قبل استقالة 
الحكومة.
وإذ يعلن السيد عبد المهدي اختفاءه الطوعي، ثمة سؤال يتبادر إلى الذهن، يرتبط بمقترحه المتضمن الطلب بإجراء الانتخابات المبكرة في مطلع شهر كانون الأول من هذا العام، فهل يمكن فعلا إجراؤها في هذا 
التوقيت؟ 
بالتأكيد إنّ تحقيق هذا الأمر يرتبط بمفوضية الانتخابات، وقدرتها على استكمال المتطلبات الاجرائية، وهناك من يتحدث بصعوبة الأمر خلال هذا العام.
على أيّة حال، الرئيس المستقيل أعلن رسميا اختفاءه الطوعي، والرئيس المكلف أعلن رسميا هو الآخر اعتذاره عن تشكيل الحكومة، بعد أن واجه رفضا واسعا من مجلس النواب، وهنا نتساءل: تُرى ما هو شكل المشهد المقبل في ظل الاعتذار والاختفاء؟! 
هل سينجح رئيس الجمهورية بتسمية مكلف جديد، يحظى بتوافق شعبي - سياسي، ليشكل الحكومة المرتقبة، بعيدا عن 
الجدل؟ 
وهل سيتحقق هذا التوافق في ظل وجود تقاطعات حادة ومصالح متقاطعة، وانحسار المناطق المشتركة بين الفرقاء؟ كل ذلك هو نتاج التأسيس الخاطىء الذي شاب العملية السياسية منذ بداية نشوئها في العام
2003.
أسئلة تبقى حائرة تدور في الأذهان حتى تتغير قواعد اللعبة السياسية بما ينسجم وتطلعات الناس، بناء دولة قوية ذات هيبة، واقتصاد متين يحقق عيشا كريما لكل الناس
، وهذا الأمر يتطلب أن يتشارك الجميع في تحمل النجاح والفشل على حد سواء
، بعيدا عن حسابات الربح والخسارة الفئوية، وإلّا فإنّ بوصلة الأحداث ستكون نحو وجهة
 أخرى.