{كورونا» قد يفتت الاتحاد الأوروبي

قضايا عربية ودولية 2020/04/05
...

ترجمة: أنيس الصفار*
 
جائحة فيروس كورونا، بما تزامن معها من أزمات صحيَّة واقتصاديَّة، عملتْ على تعميق خطوط التصدع في الجسم الأوروبي على نحوٍ يخشى بعض القادة أنه قد يكون خاتمة الحساب.
تماسك الاتحاد الأوروبي ضعضعه خروج بريطانيا من الاتحاد (البريكست).. والتداعيات السياسيَّة التي نجمت عن موجة الهجرة في 2015 الى جانب الأزمة الماليَّة في 2008 خلفت فيه ما خلفت من كدمات ورضوض.. ووضعه أمام التحديات بروز النزعة الاستبداديَّة في الشرق، تلك النزعة التي اتخذت مساراً يتنافى مع المُثل التي ينادي بها المشروع الأوروبي.
 
إذا ما عجز القادة الأوروبيون عن رسم مسار أكثر توحداً اليوم فإنَّ مشروعهم سوف يكون مهدداً بخطر الموت، على حد وصف أحد مهندسيه مؤخراً.
في الأيام الأولى لاندلاع وباء كورونا كشفت ردود فعل الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي عن أنَّ المصالح القومية هي الأعلى وأنها قد داست على المثل الأوروبية الداعية الى الإيثار والتضحية، إذ أعيد العمل بالقيود الحدودية على نحو عشوائي وفرضت ألمانيا وفرنسا ضوابط تحظر تصدير المعدات الطبية، مثل الكمامات وأجهزة التنفس الاصطناعي، حتى عندما كانت إيطاليا تصرخ مستغيثة طلباً للعون.
لم تضع الماكنتان الإعلاميتان الروسية أو الصينية الوقت بل سارعتا الى استغلال الموقف دعائياً على الفور، حيث بادرت موسكو وبكين فجأة وبمنتهى السرعة، وسط الأضواء والنفخ في الأبواق، الى شحن كميات كبيرة من المساعدات الطبيَّة، وهكذا انتشرت حكايات المنقذين المخلصين وتوفرت للمشككين باليورو في المنطقة مادة يلوكونها.
بعد ذلك أخذت دول الاتحاد الأوروبي تنسق جهودها لتوفير الإمدادات، وأرسلت الى إيطاليا المبتلاة من المعونة والإغاثة أكثر مما أرسلته الصين. إلا أنَّ الأسبوع الماضي شهد عودة ظهور الصدع بين الشمال والجنوب حول كيفيَّة إدارة الرد الاقتصادي. كذلك تجاذبت الاتحاد قوى الشد بين الشرق والغرب، فقد استخدم رئيس الوزراء الهنغاري "فكتور أوربان" سلطات الطوارئ لتعطيل الديمقراطية تعطيلاً فعلياً ووطأ مبادئ حكم القانون الأوروبية الأساسية بمنتهى الفظاظة.
تقول "ناتالي توتشي" مديرة معهد الشؤون الدولية في إيطاليا: "ربما كانت هذه هي القشة التي قصمت ظهر البعير. السبب الذي يجعل من فيروس كورونا تحدي العصر هكذا ليس كونه قد استنزل علينا من السماء مصائب لم يكن لها وجود، بل لأنه مسّ القضايا جميعاً، وقد فعل ذلك من خلال إبراز ديناميكيات موجودة فيها أصلاً. لكأنَّ هذا الفيروس قد أخرج من كل شيء ذروة ما فيه.
يشبه "نوربرت روتغن"، وهو سياسي ألماني يخوض السباق ليكون خلفاً للمستشارة "أنجيلا ميركل"، الصراع الأوروبي الداخلي بأنه "حرب خنادق طاحنة". يضم روتغن صوته الى جوقة الأصوات التي تحذر من أنَّ الاتحاد الأوروبي يواجه خطراً محدقاً.
لقد كان الجدل مريراً بحق. فبعد أنْ تقدمت تسع دول، من بينها ايطاليا واسبانيا، بطلبات للحصول على دعم مالي بصيغة "سندات كورونا" قال وزير مالية هولندا "ووبكي هويكسترا": إنَّ على بروكسل دراسة الأسباب التي جعلت بعض الحكومات مفتقرة الى الإمكانات المالية لمكافحة أزماتها بنفسها.
هذا التعليق، الذي ألقي خلال مؤتمر خاص لوزراء مالية الاتحاد الأوروبي، أطلق عاصفة نارية لأنه أوحى للمنتقدين بأنَّ هولندا تريد تحويل أزمة صحية، لا تمت جذورها بصلة لسلوك أي من الحكومات الأوروبية، الى مسرحية أخلاقيَّة ماليَّة.
وصف رئيس الوزراء البرتغالي "أنتونيو كوستا" هذه الملاحظة بأنها كانت "مستنكرة"، ثم أضاف: "أما أنْ يؤدي الاتحاد الأوروبي ما عليه من التزامات، أو ينتهي".
في الأسبوع الماضي، خلال دعوة لمؤتمر تلفزيوني منفصل بين قادة الاتحاد الأوروبي كان مقرراً له أنْ يكون مقتضباً ولا يتعدى التوقيع بالحضور، تصاعدت الأجواء واحتدم النقاش بشكل غير اعتيادي لمدة تجاوزت ثلاث ساعات، على حد وصف دبلوماسيين تابعوا الاجتماع.
في تصريح نادر قال "جاك ديلورس"، وهو دبلوماسي فرنسي عمره 94 عاماً كان له دور قيادي في تأسيس الكتلة الأوروبية بصيغتها الحديثة، محذراً: "يبدو أنَّ المناخ المهيمن على رؤساء الدول ورؤساء الحكومات، الى جانب غياب التضامن، يشكلان خطراً مهلكاً على الاتحاد الأوروبي".
هذه المناقشات نكأت جروحاً لم تكد تلتئم منذ أيام الأزمة المالية في العام 2008 عندما قادت ألمانيا الأوروبيين الآخرين في فرض إجراءات تقشف موجعة على اليونان وإيطاليا مقابل منحهما مساعدات ماليَّة.
الآن، وإذ تلح الحاجة أكثر مما كانت في تلك الأيام، يتساءل البعض: إذا كانت دول الاتحاد الأوروبي الأغنى معرضة عن مساعدة جيرانها الذين يعانون البلاء، فما الجدوى من العضوية أساساً؟
يقول "هولغر شمايدنغ" كبير الاقتصاديين في بنك بيرنبرغ: "بعد عشر سنوات أو عشرين سنة من الآن سوف نتذكر جميعاً ما الذي حدث، مثلما يتذكر الألمان جميعاً أين كنا عندما سقط جدار برلين. الأثر السياسي الذي نحدثه اليوم سوف يكون حاسماً، هذه أزمة يمكن أنْ يحقق فيها من يؤمنون بالانتماء الى هذا الجانب أو ذاك مكاسب سهلة".
بذلت المفوضية الأوروبية جهوداً مضنية من أجل إبراز فضائل تشهد على "التضامن" الأوروبي، فتحدثت من خلال بيانات وكشوف كيف استضافت ألمانيا ولوكسمبرغ المرضى المصابين بـفيروس كورونا من فرنسا وإيطاليا، وكيف تبرعت فرنسا بمليون كمامة لإيطاليا في حين أرسلت ألمانيا سبعة أطنان من المعدات الطبية. كذلك أعدت المفوضية مخزونات احتياطيَّة مشتركة من المعدات الطبيَّة.
لكنْ أمام الرفض الأولي للمشاركة بالتجهيزات، والامتناع المدوي الذي صدر عن الدول الأوروبيَّة الشمالية بخصوص ترابط المواقف ازاء كورونا، كان من الصعب منافسة الصور التي عرضها التلفزيون لصناديق المساعدات التي تنقلها الصين بالطائرات وللجنود الروس المرافقين الذين توافدوا على شمال إيطاليا.
يقول "نوح باركن"، وهو زميل أقدم في مؤسسة صندوق مارشال الألماني: "على أوروبا أنْ تكون جادة في تكاتفها مع بعضها والتغلب على عثراتها الأوليَّة إذا ما أرادت كسب معركة المشاهد والحكايات هذه. فهي لن يكون من صالحها الآن أنْ تظهر بمظهر من يحاول افتعال المشاحنات في مثل هذا الوقت".
إنْ يكن هذا هو ما طبّق إبان الأزمة المالية قبل عقد من الزمن فإنَّ الأوضاع اليوم أكثر حرجاً وحساسية نظراً لتصاعد الموقف العدائي من جانب الولايات المتحدة وبروز الصين الصاعدة التي أظهرت للعالم أنها على استعدادٍ تام لاستغلال هذه الأزمة في تنشيط مصالحها الخاصة".
الاختلاف الآخر عن العام 2008 هو أنَّ القوميين والمشككين باليورو والقوى المناهضة للديمقراطية قد احرزوا جميعاً بعض التقدم والانتصارات.
في مقابلة أجرتها معه صحيفة "إلبايس" الاسبانية قال رئيس الوزراء الإيطالي "جيوسيبي كونتي" إنَّ ما اسماها "البواعث القوميَّة" سوف تتنامى إذا ما عجزت أوروبا عن إثبات أنها بحجم التحدي".
لا شك أنَّ كونتي كان يضع حلف أقصى اليمين الإيطالي في باله وهو يتحدث، وهو الحزب الأعلى شعبية في إيطاليا وفقاً لاستطلاعات الرأي. كان "ماتو سالفيني"، زعيم الحلف المذكور، قد صرح قبل ذلك قائلاً: "عندما يندحر الفيروس وتنتهي الأزمة يجب أنْ نسأل أنفسنا عن مستقبل الاتحاد الأوروبي".
تقول "روزا بلفور" مديرة معهد كارنيغي أوروبا، وهي مؤسسة فكرية مقرها بروكسل: "شؤون مثل الجائحة لن يمكن التصدي لها إلا بأساليب وطرق مؤثرة عبر التعاون الدولي. فإنْ مالت الكفة الى جانب المواقف القوميَّة قد ينتهي الأمر بالإجهاز على الاتحاد الأوروبي".
حتى من قبل ظهور فيروس كورونا كان الاتحاد الأوروبي يكافح من أجل إلزام بعض أعضائه في وسط أوروبا بالالتزام وسط مشاعر قلق تتعلق بحكم القانون وحرية الصحافة والقضاء وحقوق الأقليات.
في هذا الأسبوع جاء رد أوروبا على توسيع أوربان صلاحياته وفرض سلطته بلا قيود منسجماً مع طبيعتها، خلواً من أية مخالب أو وسائل ضغط. "قانون فيروس كورونا" سوف يتيح لأوربان أنْ يمارس الحكم بقراراته المجردة، متجاوزاً الجمعية الوطنية، فهو قد أعلن حالة الطوارئ ولكنه لم يحدد موعداً لانتهائها. نصف أعضاء الاتحاد الأوروبي أصدروا بيانات تشجب سوء استغلال سلطات الطوارئ، ولكنَّ أياً منهم لم يذكر هنغاريا بالاسم.
في غضون ذلك سوف تبدو العودة الى الحدود القوميَّة شكلاً من أشكال التبرير والإعفاء لقوميي أوروبا الشعبويين من أمثال أوربان، كما تقول توتشي.
رغم وجود إشارات تدل على أنَّ البلدان الأوروبية قد تتمكن من التكاتف والوقوف معاً ضمن خطة لإنقاذ الاقتصاد فإنَّ الانقسامات قصيرة الأجل قد تترك تداعيات طويلة الأمد.
إحدى المسائل المحركة للمشاعر هي الكيفية التي سيتم بها التعامل مع مسألة رفع القيود التي فرضت على مواطني الاتحاد. يقول "فرانسوا هايزبرغ" من المعهد الدولي للدراسات الستراتيجية، وهي مؤسسة فكرية: "هذه المسائل يمكن أنْ تثير استياءً بالغاً. مكمن الخطر الحقيقي الذي يهدد أوروبا هو أنْ تكون إيطالياً ولكنَّ الألمان ينظرون إليك باعتبارك مجرد ناقل وباء".
بعد ذلك تبقى المسائل الأوسع مثل القيم والمُثل، كما يعتقد المحللون، حين يتسرب الشك ويتصاعد بشأن الافتراض الاساسي القائل بأنَّ فتح الحدود والاقتصادات على بعضها بين الدول سوف يعود على الجميع بالسلام والرخاء.
تقول توتشي إنَّ أوروبا قد تنهض من هذه المحنة أقوى، رغم أنَّ الآثار التي سيخلفها فيروس كورونا فيها القضاء على الاتحاد الأوروبي. بيد أنَّ متطلبات هذا النهوض سوف تفوق ما يمكن لأوروبا لملمته من الأزمة الآفلة، فالأمر سوف يتطلب من القدرة ما يتعدى مجرد الحد الأدنى الذي يمكننا من جرّ أقدامنا".
*لوفداي موريس ومايكل برنباوم/ عن صحيفة واشنطن بوست