نجاح العلي
يمرّ العالم هذه الأيام بتجارب إنسانية واجتماعية قد
لا تتوافر في أزمان أخرى، وقد يتفاجأ المرء بحالات ومواقف وممارسات نبيلة تظلّ محفورة في الذاكرة لنبلها وأثرها العميق في الإنسان، وفي سلوكه ومعتقداته وأيديولوجيته وفلسفته في الحياة.
وقد نرى، حتما، في أوقات قريبة، تنظيرات فلسفية للإنسان المعاصر لما بعد الكورونا، وهذا الأمر يستوجب دراسات وتحليلات لعلاقاتنا الاجتماعية بعد هذا الوباء الخطير، وما أفرزه من أثر كبير في نظرتنا للحياة ولعلاقاتنا بعضنا ببعضنا الآخر، وسيظهر معدن الإنسان الأصلي عبر مواقفه مع الناس المحيطين به، وأنّ التباعد المجتمعي القسري الذي حصل قابله تقاربٌ أُسريّ وتواصل اجتماعي افتراضي عبر مواقع التواصل الاجتماعي، وخصوصا الفيسبوك، واستخدام هذه التقنيات الحديثة للتثقيف من خطورة المرض وكيفية تجنبه، فضلا عن القيام بحملات للتبرع ومساندة المعدمين وذوي الدخل المحدود.
التكافل الاجتماعي في أوقات الأزمات يختلف من مجتمع لآخر، والمجتمع العراقي معروف بمروءته وتماسكه في أوقات المحن.
وقد يعود هذا الأمر نتيجة الظروف القاسية التي مرّ بها عبر الانقلابات السياسية والعسكرية والحروب والعقوبات الاقتصادية والعنف الطائفي والتهجير القسري، داخليا وخارجيا، وحملات الإبادة الجماعية والتمييز الإثني والعرقي والقومي والطائفي، كلّها عوامل قوّت عزيمة الإنسان وإصراره على الحياة رغم الصعاب وتركت أثراً في سلوكه وفكره، وقد يعد هذا الأمر أحد الأسباب المهمة والغريبة في تعامل الفرد العراقي بعدم جدية ولا أُبالية في أخذ الاحتياطات الملائمة للتصدي لوباء (كوفيد- 19) أو ما يعرف عالميا بجائحة كورونا، وعدم التزام بعضهم بقرارات وتوصيات خلية الأزمة التي وضعت من أجل مصلحته للحدّ من هذا الوباء وعودة الحياة بسرعة وانسيابية كما كانت سابقا بتعاون وتضافر جهود الجميع، لأنّ آثار وتبعات هذا المرض ستلقي بظلالها على الحياة الاقتصادية والاجتماعية، ومن أجل الحيلولة دون تكرارها مستقبلا، أو على الأقل الاستعداد لحدوثها على مستوى الأفراد والمؤسسات والدول، سواء كانت أوبئة أو كوارث طبيعية قد تداهمنا في أيّ زمان ومكان، وهذا الأمر يفرض علينا الاهتمام بالقطاع الصحي والزراعي والصناعة المحلية وتحقيق الاكتفاء الذاتي من السلع والبضائع الأساسية التي ستوفر بلا شك الأمن الغذائي الوطني وبخاصة محصولي الحنطة والشعير، وتخزين كميات كافية منه يمكن استخدامها في أوقات الأزمات وإعادة النظر في استغلال الريع النفطي في تنفيذ الخطط التنموية التي أساسها ومفتاحها الصحة والتعليم، كما ثبت ذلك علميا وعمليا في تجارب عالمية ما زالت شاخصة أمامنا، وأنّ العراق بإمكاناته المادية والبشرية وموقعه الجغرافي مهيَّأ لتحقيق خططه التنموية في وقت قصير لو توافرت الإرادة والإدارة السياسية المناسبة
والكفوءة.
ما لاحظناه من تآزر مجتمعي في هذا الظرف الحساس والخطير، وخصوصا في توفير المواد الغذائية والحاجات الأساسية والأدوية لذوي الدخل المحدود والمعدمين، كذلك قيام ميسوري الحال وأصحاب العقارات بتقليل أو إعفاء المستأجرين من إيجارات الدور والمحال التجارية، وقيام بعض المواطنين وأغلبهم من الطبقة المتوسطة بتزويد المحتاجين بسلال غذائية، وبادر بعض أصحاب مولدات الكهرباء الأهلية إلى خفض سعر الأمبير وإعفاء الأسر المتعففة وأصحاب الدخل المحدود من أجور الكهرباء لهذا الشهر، فكلّ إنسان مهما كان موقعه ومكانته له دور مهم في هذا الظرف الحساس الذي يمرّ به بلدنا والعالم أجمع، وأصبح تضامن وتآزر وتعاون الشعوب ضرورة لاستمرار عجلة الحياة، على عكس قيم الفردانية والتنافس والجشع والانعزال والعنصرية التي باتت لا تتلاءم ومتطلبات الحياة بالوقت الراهن. ولا بد من أنّه سيأتي يوم وينزوي ويختفي و ستظلّ المواقف النبيلة والإنسانية في سجل الذاكرة تتداولها الأجيال بفخر واعتزاز على مرّ الأزمنة
والعصور.