(9 نيسان) ذكرى السقوط وحُلم النهوض..

آراء 2020/04/08
...

مالك مسلماوي
 
كثيرة هي الأحداث الخطيرة في حياة العراقيين، وعجيب أمر هذا البلد في صبره وقدرته على التحدي وتخطي النكبات والمفاجئات! ولكثرة ما ألمّ بالعراق من أحداث وويلات بات أنموذجا متفرّداً في المطاولة والثبات والانتصار للحياة، وكان له من المناعة ما لم يكن لغيره من الشعوب، مناعة ضد الهزيمة والإنهيار والإنكفاء والموت، فما جرى في العراق خلال العقود الأخيرة لم يجرِ في أية بقعة من بقاع الأرض. 

هذه القدرة لم تتأتَ من مصادفة عابرة أو لعبة حظ, إنّما بما يمتلكه العراق من عمق تاريخي وتراث غني أسهم في المسيرة الإنسانية منذ أقدم العصور، وكما قال الشاعر الكبير مصطفى جمال الدين:
 "بغدادُ ما اشتبكتْ عليك الأعصُرٌ ...... إلّا ذوتْ، ووريقُ عمركِ أخضرُ"
اليوم، تعود بنا الذاكرة الحيّة إلى حدثين صادمين: الأول, سقوط النظام الدكتاتوري على يد قوات التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة الأميريكية (2003). والثاني، الفاجعة, وهو ذكرى اغتيال السيّد المفكّر محمد باقر الصدر مع أخته الشهيدة بنت الهدى العام 1980، بتدبير من النظام المباد لوأدِ الأصوات المعارضة مهما كانت منزلتها العلمية والتاريخية والروحية، الأمر الذي أثار موجة سخط بين الأوساط الشعبية واشتعال ثورة لم يكتب لها النجاح 
آنذاك. نعيش ذكرى الصدمة ونحن في صدمة عالمية كبرى إذ نواجه، مع شعوب الأرض، جائحة وباء (كورونا) الذي يتسبب بموت أعداد كبيرة من البشر، فما أحوجنا إلى التكاتف والتعاون للتصدي لهذا الخطر الماثل, ما أحوجنا إلى دولة متوازنة بقيادة وطنية حريصة على سلامة وحماية مواطنيها من استفحال هذا الوباء الخطير، فنحن بين جائحتين: (كورونا) وجائحة الفوضى السياسية الدائمة. التاسع من نيسان هو الحدث الأكبر في العصر الراهن ليس في العراق حسب, بل في الشرق الأوسط. صدمة لم يكن يستوعبها أكبر المتشائمين ولا المتفائلين!
سقوط مدوّ لنظام كان الجميع يحسب له ألف حساب، اتّحد الخيال بالحقيقة والرمز بالواقع, صدام (الحجر) في ساحة الفردوس هو صدام البشر, سقط الحجر وانتهت أسطورة البشر الرجل الذي أقلق العالم, وملأ الصدور بالخوف والرهبة، الحدث الذي شغل العالم من أقصاه إلى أقصاه, كان وقعه على عقول وضمائر العراقيين لا يوصف، وهم يرون حاضرهم بأغرب وأبشع ما يكون، فوضى وضياع ودمار في كل مكان, وكدأب العراقي أن يقول: "إنّ مع العسر يسرا".  لقد مرّت عليه مصائب وحروب وضنك حصار, وخرج منها بعد ألم ومعاناة و صبر. على الرغم من كل هذا كانت هناك جذوة أمل تتوقد في وجدان كل عراقي. إنّ الغد ربّما سيكون إلى جانب الفقراء والمضطهدين والمعذبين، وستمر هذه المرحلة كما مرّت غيرها وغيرها, وتأتي مرحلة أخرى بلا خوف ولا حروب ولا موت. لقد انتهى عصر الدكتاتورية وجاء عصر الديمقراطية، زال الغطاء الثقيل وبدأ مشوار الحرية وحقوق الإنسان وبناء الوطن من جديد, واستبشر الناس خيرا, وأخذوا يجتهدون في رسم صور الآتي السعيد، ولسان حالهم يقول: الخير آتٍ، فلا تبتئسوا يا عراقيين. لقد سقطنا وسننهض من جديد. كان أمل الكثير بالديمقراطية حلّا، وبأنّ التاسع من نيسان هو يوم التحرير والأميركان جاؤوا لينقذونا، بينما يصرّ آخرون بأنّ أميركا قوة محتلة, لا تترك لنا سوى الضعف والخراب والأزمات. 
إنّ كلّ ما حصل للعراقيين تتحمل مسؤوليته السلطات المتعاقبة, قبل الكارثة وبعدها، هذا ما يتداوله العراقيون ويؤمنون به، لأنّ السّلطة هي ربان السفينة وعليها أن تصل بالناس الى شواطئ الأمان، ولذلك وضعوا ثقتهم بالقادة الجدد لبناء العراق الجديد السائر على الطريق الصحيحة كما ظنّوا. لكن ما حدث كان على العكس تماما, لقد انتقل البلد من زمن قاسٍ إلى زمن أقسى, بدأت سلسلة الأزمات والصراع على السلطة، ونشبت الحرب الطائفية التي خسر فيها الجميع ولم يربح منها أحد سوى منْ أوقدوا نارها تكريسا لبقائهم في القمة، فالخطر يهبط من القمة دائما, ومع ذلك أدّى المواطنون كلّ ما عليهم وأسهموا في إرساء النظام الديمقراطي وهبّوا في الانتخابات واختاروا ما اعتقدوا بهم الخلاص. ومع تراكم الانتكاسات والتراجع فقد الشعب الثقة بالسلطات المتعاقبة، السلطات التي كان همّها استغلال السلطة لمصالح فئوية وشخصية. 
لقد خيّب القادة الجدد آمال العراقيين ورغبتهم بالخلاص, ومن المؤسف و غير المتوقع أن يقع العراق فريسة سهلة لعصابات (داعش) الإرهابية تحت راية سوداء مرعبة تحمل صفة (الإسلام) وتدّعي الخلافة, وإعادة عجلة الحياة إلى الوراء، وينهض العراقيون مرّة أخرى شعبا وجيشا وحشدا، من شباب العراق ورجاله، ليهزموا أعتى عدوان على البلد, وتتحرر الأرض من القذارة والفكر المتخلف. ولكنّه يبقى نهبا لمصالح متقاطعة وقوى خارجية تتربص به و تنقض عليه مستغلة حالة الضعف والفوضى والفساد. لقد انتهى كلّ شيء وبقي الحلم، حلم النهوض الذي من أجله خرج العراقي في تظاهرات سلمية احتجاجية, ومن نيسان إلى تشرين, حكاية شعب لن يموت.