عباس الصباغ
لم يكن اغتيال آية الله محمد باقر الصدر مجرّد قرار من جملة القرارات الظالمة والمتوحشة التي اتّخذها، آنذاك، رأس النظام المباد لتصفية خصومه، أو منْ يشكّ في ولائهم له، أو حتى الذين لم يتوافقوا مع مزاجه الديكتاتوريّ المريض حسب، فضحاياه كانوا، طيلة فترة استبداده التي استمرت لأكثر من ثلاثة عقود، من مختلف ألوان الطيف المجتمعي/ الإثني العراقي، بل شمل مشوارُ الإبادة والقتل غيلة رفاقه ومجايليه وأقرب الناس إليه.
ولم ينتهِ هذا المسلسل الذي بدأ من خمسينيّات القرن الماضي وتماهى مع تنظيمَيْ القاعدة وداعش الإرهابيينِ الظلاميينِ بعد سقوطه المدوّي، فقد استمر ذلك التوحّش على يد أيتامه وخلاياه البعثية والإرهابية النائمة.
والحديث عن آية الله الشهيد محمد باقر الصدر له معنى إضافي وخاصّ للتوحش البعثصدامي، فلم يكن قرار اغتياله قراراً مزاجيا، أو اعتباطيا، أو لذنب معيّن يعاقب عليه القانون الذي وضعه رأس ذلك النظام نفسه، بل كان قرارا مبرمجا ومخططا له ولغايات بعيدة المدى والأثر، فقد ظهرت أبعاده ونتائجه في السنين والعقود اللاحقة (وحتى الآن)، وظهرت تلك الآثار جلية في سلوك المعارضة العراقية التي اختارت المنافي لتمارس نشاطها السياسي فيها وذلك لشراسة ردود الأفعال القمعية التي كان يمارسها ذلك النظام مع مناوئيه بأجهزته البوليسيّة والمخابراتيّة السّاديّة، التي كانت تتخذ مبدأ الإعدام لكلّ شخص لا يتماشى مع سياسة النظام مهما كان مستوى هذا الشخص، حتّى وإنْ كان مفكراً وفيلسوفاً إسلاميا كبيراً، ومن العيار الثقيل، كآية الله محمد باقر الصدر، وأخته العلوية آمنة الصدر، رحمها الله، فبإعدامهما ضرب النظام الخطوطَ الحمر عرض الحائط، وأسّس لفكرة جمهورية الرّعب البعثصدامية البوليسية التوليتارية، وألّا أحدَ يكون بعيدا عن هذه العقوبة مهما كان، فجميع العراقيين كانوا ضحايا وشهداء في هذا الهلوكوست الشامل.
ومن آثار الخراب المستقبلية التي تركها اغتيال آية الله محمد باقر الصدر، أنّ هذا الاغتيال غير العشوائي ترك فجوة كاريزماتية كبيرة على سلوك الأحزاب التي عارضت النظام آنذاك، وهي الأحزاب نفسها التي شكّلت العمود الفقري للعملية السياسية بعد التغيير النيساني المزلزل.
فقد تاهت تلك الأحزاب في متون المنافي، وخضعت لأجندات الدول التي احتضنتها، ولم تظهر بينها شخصية وطنية قيادية جامعة لشتات التنوع الأيديولوجي / الفكري، أو التشتت الإثني ـ القوماني لتلك الأحزاب.
وقد كان الشهيد آية الله محمد باقر الصدر أنموذجا حيّا لتلك الشخصية الوطنية الجامعة والمعتدلة، وتوضّح ذلك أطروحاته الفكرية والفلسفية، فكان اغتياله المقصود خسارة فادحة لجميع العراقيين سواءً الموجودون منهم داخل الوطن أو خارجه، بعد أن خلت الساحة العراقية من وجود هكذا شخصية ذات تأثير كاريزمي استراتيجي مؤثر تستقطب الجماهير كما كان غاندي ومهاتير محمد... الخ، ومن جميع النواحي الثقافية والمعرفية والسياسية والاقتصادية، كشخصية آية الله محمد باقر الصدر، وفي أبعادها الابستمولوجية ذات الثقل الكاريزمي، فلم يتسنَ للعراقيين أن يحظوا بهكذا شخصية تلتفُّ حولها الجماهير، ومنذ أن أصدر رأس النظام البائد قراراً بتصفية آية الله محمد باقر الصدر، في التاسع من نيسان، مطلع ثمانينيات القرن العشرين، فقد كان يدرك هذه الحقيقة التي وضعها في حساباته المستقبلية التي استمرت لأكثر من ثلاثة عقود عجاف، وما تزال الساحة العراقية خالية من وجود هكذا شخصية، ولعلّ التّوهان الذي تعيشه العملية السياسية حاليا يعود إلى هذا السبب.
كما أنّ اغتيال آية الله محمد باقر الصدر لم يكن مصادفة حينئذٍ مع أحداث إقليمية عاصفة تزامنت مع الثورة الإيرانية وتأسيس أول جمهورية فيها، واختطاف آية الله موسى الصدر من لبنان، وإعدام رئيس وزراء باكستان الأسبق "ذو الفقار" علي بوتو، فجميع هذه الشخصيات ترتبط بنسق أيديولوجي واحد لا يبتعد عن فكرة الشخصية الكاريزماتية الوطنية الجامعة، فجاء هذا الاغتيال متزامنا مع تلك الأحداث التي رسمت خطوطها العريضة لعبة التوازنات الدولية بين المعسكرين الشرقي والغربي، وهي ذات اللعبة التي افتعلت سيناريو حرب الخليج
الأولى.
وتاريخ التاسع من نيسان يحمل أكثر من مصادفة وتزامن عجيب، وربّما يعرف أسبابه الله والراسخون في ترتيب أوراق كواليس السياسة في الشرق الأوسط وتوجيه خيوط الدُّمى التي تتلاعب بها ذات القوى التي كانت وما زالت تتلاعب بمقادير الشرق الأوسط كالسقوط المخزي لحزب البعث الدموي والنظام الفاشستي الذي كان يحكم باسمه، فشاءت الأقدار والمقادير أن يتزامن سقوط ذلك النظام (الجلّاد) مع ذكرى استشهاد الضحية آية الله محمد باقر الصدر، الذي اختزلت رمزية شهادته عذابات جميع العراقيين في قضية واحدة، وفي يوم واحد، إنّه التاسع من نيسان يوم الشهادة والتحرير
معا.