العراق في تحولات الألفية الثالثة

آراء 2020/04/09
...

د.عبد الواحد مشعل
 
لم تخرج التحولات خلال التاريخ عن السياق الثقافي لقوانين الكون التي طالما كانت الحاضن لأي تغير في حياة الإنسان، لذا ما كان يسمى بعصر القرى قد انتهى وجاء عصر المدن الذي يلزم التعدد والتنوع، بصفتهما حالة إنسانية متفاعلة في استمرار الحياة الاجتماعية يمكن لها أن تقدم انجازاً حضارياً . أما الأحادية فهي أحادية الله ، لذا فالتعددية الإنسانية والأحادية الإلهية هما القانون الذي يسير عليه الكون ، 

وعندما نقوم بمراجعة نقدية لتاريخ الإنسان الطويل نجد أن كل النظم الأحادية قد هلكت ،وعندما نعرج الى التاريخ الحديث نجد أن النظم الأحادية ذات البعد الايديولوجي حول العالم انتهت ولعل ابرز من يمثلها الاتحاد السوفييتي الذي كان يمثل احد طرفي ميزان القوى في العالم خلال الحرب الباردة ، والعراق لم يخرج عن هذا السياق الثقافي للتغير وان اختلفت الأدوات، وينبغي في حالة تقديم تقييم موضوعي لما حصل من تغير في سنة 2003 وما بعدها، وضع الشروط التي يقرها ميزان السياق الثقافي القائم على قبول التعدد ورفض الأحادية، ان هذا التحول لم تكتمل شروطه الموضوعية بسبب عوامل ثقافية واجتماعية، ما أوقع المجتمع في إشكاليات كثيرة لا يزال يدفع ثمنها الى اليوم ، فالدولة ما زالت غير قادرة على الخروج من إشكالية بنيتها السياسية التي قامت على أساس المحاصصة السياسية وإيجاد بدائل ديمقراطية تسعفها في إيجاد آلية مقبولة للتنافس البرنامجي بدلاً من التنافس العرقي والطائفي والقبلي دون أن تكون لها رؤية شاملة لأصل التعدد في العراق ووظيفته في بناء الدولة المدنية، اذ يمكن أن تكون الديمقراطية أساساً في اختيار الطريق النافع، وهذا مرتبط بطبيعة التكوين الثقافي للمجتمع التقليدي الذي تطوله التغيرات البنيوية اللازمة لكي يخرج من عباءة القبيلة أو العرقية أو الطائفة ، والتوجه نحو بناء نظام تعددي خلاق يتكامل فيه الجميع في بناء غد أفضل، والذي حصل ان القوى السياسية تصارعت فيما بينها وجرت المكونات الاجتماعية الى ساحتها لتحقيق مصالحها الآنية ، دون أن تكون لتك القوى القدرة على صياغة دولة مدنية ،حتى تجزأت التعددية في النظام الجديد الى أحاديات، كل منها يمثل ايديولوجية أحادية ، وكأن النظام الأحادي يظهر من جديد في عقلية كل طرف من الاطراف السياسية دون قدرتها في بلورة نظام تعددي حقيقي يكون ولاؤه الأساسي للوطن، وقادراً على بناء تنمية شاملة تنقذ الإنسان العراقي من أزماته المتلاحقة.
لا بد من القول ان الخروج من الأزمة بعد تجربة دامت سبع عشرة سنة يكون بإيجاد حلول حقيقية لمشكلات المجتمع الحالية والانصراف الى مراجعة كل السياسات السابقة، وهي مسألة ليست بالسهلة وسط ترسخ مفاهيم المحاصصة التي عدها البعض مكسباً أساسياً له ،كما ان البعض نظر إليها بأنها تحقق له الاستقلال في اتخاذ القرار الذي يريده دون أن يكون مصدر قوة للمجتمع الكلي،حتى أخذت أزمات الدولة بالتعقيد سواء على الصعيد الاقتصادي أم السياسي أم الاجتماعي ،ولم تتمكن في إرساء بنية سياسية متكاملة الأركان ، ولاشك ان الإنسان العراقي أيضاً يتحمل مسؤولية عندما انساق وراء تراثيته الثقافية دون أن يكون قادراً على تجاوز جزئياتها في عالم يتحول اجتماعياً وثقافياً مع الألفية الثالثة ومستقبله يحمل الكثير من المفاجآت والتحولات الكونية ، وما يعيشه اليوم من ظروف أزمات صحية واقتصادية وثقافية وما بدأت تفرزه من علامات لتحولات كبرى قادمة ،ستقود العالم الى تشكيل نفسه من جديد ، وما يمكن أن يفرز قوى عالمية تكون فاعلة في رسم موازين القوى في العالم ، وأفول قوى أخرى أو تراجع نفوذها العالمي.
 مراجعة نقديَّة
لا يكتب لأي تجربة النجاح من دون مراجعة نقدية لمسيرتها وبيان مواطن القوة والضعف فيها من اجل رسم سياسات مستقبلية تكون ضمن السياق الاجتماعي والحضاري للثقافة المعاصرة، وبداية تشكل ثقافة أجيال جديدة يتجه اهتمامها في المرحلة الحضارية الحاضرة والمستقبلية الى بناءات جديدة من التشكل تكون أكثر ملاءمة للتحولات العالمية القادمة، وعليه ينبغي إعادة صياغة العمل السياسي من جديد لكي يأخذ مداه الطبيعي في تحقيق العدالة الاجتماعية ، وهذا يتطلب العديد من الاجراءات أبرزها محاربة الفساد المالي والإداري وإعادة هيكلية تنفيذ المشاريع الكبيرة، وجعلها بيد مجلس الوزراء تحديداً وعلى وفق انبثاق مجلس اقتصادي رقابي، فضلاً عن فتح باب الاستثمارات في المجالات الحيوية التي تصب في مصلحة المجتمع، وتفعيل القطاع الخاص ودعمه وإصلاح النظام التعليمي والتأكيد على العلوم الطبيعية والاجتماعية بما يخدم سوق العمل والاهتمام بالقطاعين الصناعي والزراعي ،والتأكيد على بلورة رؤية علمية لتهيئة الكوادر المهنية والفنية التي تحتاجها المرحلة الحالية والقادمة. 
آن الأوان كي ينظر الجميع الى مصلحة المجتمع، والعمل على تنميته وتحويله الى مجتمع منتج، لاسيما ان العالم اليوم يقف على أعتاب تحولات حضارية كبرى، ينبغي أن نكون جزءاً منها، وإلا بقينا نعيش في عصر البناءات التقليدية العاجزة عن تحقيق إي انجاز عصري،