ساطع راجي
أكثر من 600 ألف فرصة عمل، يحتاج العراق سنويا لتمكين الداخلين الجدد إلى الحياة من تأمين عيشهم بكرامة، هذه هي الأزمة الكبرى التي يتهرّب منها العراق منذ سنوات اعتمادا على تمرير الشبّان إلى الاقتصاد العشوائي، اقتصاد البسطيات والستوتات والتكاتك، فيما لو لم يحالفهم الحظ بالحصول على وظيفة حكومية لا تنتج شيئاً.
هذه الأزمة لا تحظى باهتمام حقيقي في التداول السياسي المنشغل دائما بتقاسم السلطة ونزاع الولاءات، صحيح أنّ النواب والساسة والمسؤولين يتطرقون إلى مشكلة البطالة كلّما أرادوا استعراض مواقفهم، أو وعودهم للمواطنين. لكنهم، أبداً، لا يقترحون حلا، أو يلوّحون من بعيد بخطط غير واقعية، إنّهم يدغدغون الأيدي العاطلة ويظنون أنّها ستمتد إليهم لتصافحهم بينما هي تستعد لصفعهم لا أكثر.
الاقتصاد النفطي يجعل من وجود الشعب شيئا مزعجا للسلطة التي لا تجد ضرورة لكل هؤلاء الناس المتطلبين، إلّا إذا تحوّلوا إلى جنود يدافعون عنها عندما تتعرض للخطر، بينما جوهر السياسة هو إدارة شؤون الناس لتمكينهم من البقاء بكرامة فإذا بهم نفطيا يصيرون مجرد وسيلة لبقاء السلطة آمنة.
العاطفيون، أصحاب الحنين المرضي، مثلهم مثل الملوحين بالوعود المستحيلة لتشغيل العاطلين، يتحدثون عن الاستحالات أيضا، هم يحلمون بالدولة التي تنتج الألبان والأحذية والملابس الداخلية وإحياء مصانع أحدث معداتها تعود إلى ما قبل العام 1990. وانسجاما مع الخداع، يتحدث ساسة الوهم بالسياق نفسه وبالنبرة ذاتها متجاهلين أنّ الدولة الاشتراكية الأكبر راهنا تدير اقتصادها رأسماليا. وبينما تتمسك الدولة العراقية بتعطيل استثمار معظم الموارد التي تمتلكها وتبقى تجبي إيجارات شهرية وسنوية تافهة لا تسد كلفة جبايتها عقارات متهاوية يتمنى مستأجروها تملّكها منذ سنوات، تقوم دولة مثل السعودية ببيع حصص من مؤسساتها النفطية!
ملايين العاطلين هم وقود أيّ غضب، لنتذكر أنّ التسويغ الأوسع شعبيا للأعمال الإرهابية بعد 2003 هو حلّ المؤسسات العسكرية والأمنية وتحول عناصرها إلى عاطلين، ثم مسلحين خارجين على القانون. بالمثل، فإنّ العاطلين الآخرين قد ينخرطون في أي تنظيم مسلح تحت أيّ شعار كان، أو إنّهم يشعلون الاحتجاجات دائما ويسخرون من الموت ومن دعوات الرجوع للبيت حتى لو كان الخطر وباءً قاتلا فهذا البيت غير مناسب للبقاء داخله.
توفير مئات آلاف فرص العمل سنويا، وبضعة ملايين فرصة على نحو مستعجل، لن يحدث عبر عقليات إدارية وسياسية تقليدية، ولا في مناخ سياسي خانق بسبب انغماس القوى السياسية بتفاصيل السلطة الصغيرة، وخلق اقتصاد حقيقي يحتاج إلى عمليات جراحية كبرى في جسد الدولة وصدمات للمجتمع وردعا للقوى التي تستنزف المال العام، وهذه الخطوات كلّما تأخرت صارت كلفتها أكبر.
كلنا نعرف أن واجهات وهمية تابعة للقوى السياسية والشخصيات النافذة هي التي تسيطر على الاقتصاد غير الحكومي، الذي لا يمكن تسميته قطاعا خاصا لأنّه يعتاش بشكل مباشر على خزينة الدولة عبر شركات مقاولات ومصارف ليس لديها رأس مال ولا خبرة غير قوة زعيمها التي تجلب لها الصفقات. هذه المؤسسات لا تشغل أيدي عاملة بالمعنى الحقيقي، وطرد هذه المؤسسات الوهمية شرط أساس لبناء اقتصاد حقيقي إلّا إذا قرر الزعماء الاكتفاء من عمليات القرصنة المالية ودفع مؤسساتهم للعمل الاقتصادي الحقيقي. لم تتم أيّة عملية إصلاح اقتصادي من دون خسائر ومواجهات قاسية، والتهرب من هذا الإصلاح يعني دفع المجتمع باتجاه خيار آخر.