ساطع راجي
توصف الموازنة العامة في العراق بأنها موازنة رواتب، أي أنَّ الجزء الأكبر من الأموال المرصودة فيها تذهب الى الموظفين الحكوميين والمتقاعدين والمشمولين بالرعاية الاجتماعية، وهذا الجزء هو المشغل الأساسي للاقتصاد المحلي حيث يعتمد القطاع الخاص على استهلاك متسلمي الرواتب الذين يتحكم نمط استهلاكهم بمجمل اقتصاد البلاد، فزيادة الرواتب تؤدي الى تحريك الاقتصاد برفع قدرة متسلمي الرواتب على الإنفاق ولذلك اتجهت الحكومات العراقية في سنوات البحبوحة النفطية الى دورات متلاحقة من الزيادة وهو ما أنعش الاستهلاك وبالتالي خلق أنماطاً معينة من النشاط الاقتصادي الخاص، المشكلة هنا إنَّ الزيادة تؤدي مباشرة الى تصاعد الاستهلاك والأسعار من دون تأثير كبير في زيادة الأموال المستثمرة في القطاع الخاص، ذلك أنَّ نمط الاستهلاك مظهري ومحدود الأثر ولا يؤدي لظهور مشاريع منتجة حقاً تساعد على استغناء المجتمع عن الدولة اقتصادياً بأي مستوى بل يحدث العكس تماماً لتصير الوظيفة العامة ضرورة وحلماً لكل المواطنين.
ولأنَّ من يديرون الاقتصاد لا يرون في الموازنة إلا بوصفها آليَّة لتوزيع الرواتب فهم يسارعون مع كل أزمة الى اقتراح خفض الرواتب أو فرض ضرائب واستقطاعات وهو ما لا يحل مشكلة، في أزمتنا الراهنة دخل مقترح الادخار الإجباري للتداول السياسي والإعلامي، ومن الواضح إنَّ أصل المصطلح يعود الى تجربة إقليم كردستان العراق، إذ قررت حكومته قبل سنوات فرض الادخار الإجباري على الموظفين وهو عملياً يعني قطع جزءٍ من الرواتب مع التعهد بتسديدها لاحقاً ومع مرور الوقت اضطر سكان الاقليم للتكيف مع هذه السياسة بصعوبة كبيرة لكنَّ التجربة لا يمكن إعمامها على العراق ذلك أنَّ حكومة الإقليم كانت تتصرف على أساس وجود مبالغ محددة لها مضمونة في ذمة وزارة المالية الاتحادية وهي حالما تتسلم تلك المبالغ تقوم بتسديدها للمواطنين، هذا على الأقل ما قالته حكومة الاقليم لمواطنيها، في حالة العراق الاتحادي ليست هناك مبالغ محددة أو مضمونة موجودة أو منتظرة أو متخيلة في أي مكان، كل الكلام الدائر يتحدث عن التسديد حين تعود أسعار النفط للارتفاع وهو أمرٌ غير مضمون وعلى الأقل لا يعرف أحد موعده، المهم هنا إنَّ مجرد الحديث بهذا المقترح قد يدفع الى التخوف وبالنتيجة تراجع الاستهلاك وهو ما يعطل المزيد من المشتغلين في القطاع الخاص الخدمي والاستهلاكي المتضرر أصلاً بتداعيات كورونا، أما تنفيذ الخطة فعلا فهو يعني كارثة لهذا القطاع أكبر مما سيلحق بالموظفين والمتقاعدين أنفسهم.
صناع القرار الاقتصادي عندنا يتصرفون وفقاً لمعادلة مسطحة: الموازنة تذهب للرواتب وأي مشكلة في هذه الموازنة تحل عبر الرواتب، صناع الموازنة مثلاً لا يفكرون في مراجعة الإنفاق العسكري والأمني ولا في المخصصات الاستثنائيَّة لعدد من المؤسسات الحكوميَّة ولا في إعادة النظر باستثمار عقارات وممتلكات الدولة ولا بتصفية الشركات الخاسرة كما يقول القانون ولا بتعزيز السيطرة على المنافذ الحدودية والكمارك واستحصال الضرائب والرسوم. التظاهرات الأخيرة التي شهدها العراق انطلقت شرارتها باعتصامات العاطلين المطالبين بالوظائف قبل أن تتسع عدداً ومضموناً، أما الغضب المتوقع من تنفيذ فكرة الادخار فسيكون أضعاف ما حصل سابقاً مع تزايد الشعور بضغط الفساد على الاقتصاد وتصاعد النقمة من غياب العدالة في توزيع الثروة العامة.