يرى عدد من العلماء ان القرآن الكريم نزل على النبي (ص) مرتين احداهما نزل فيها مرة واحدة على سبيل الاجمال، والمرة الاخرى نزل فيها تدريجاً على سبيل التفصيل خلال المدة التي قضاها النبي (ص) في امته منذ بعثته الى وفاته ومعنى نزوله على سبيل الاجمال هو نزول المعارف الالهية التي يشتمل عليها القرآن واسراره الكبرى على قلب النبي (ص) لكي تمتلئ روح النبي بنور المعرفة القرآنية. ومعنى نزوله على سبيل التفصيل هو نزوله بألفاظه المحددة وآياته المتعاقبة ،وكان انزاله على سبيل الاجمال مرة واحدة لان الهدف منه تعريف الله تعالى لنبيه الكريم (ص) بالرسالة التي اعده لحملها وكان انزاله على سبيل التفصيل تدريجياً لانه يستهدف تربية الامة وتنويرها وتثقيفها على الرسالة الجديدة وهذا يحتاج الى التدرج.
وعلى ضوء هذه النظرية في تعدد نزول القرآن يمكننا ان نفهم الآيات الكريمة الدالة على نزول القرآن في شهر رمضان او انزاله في ليلة القدر بصورة خاصة نحو قوله تعالى (شهر رمضان الذي انزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان) وقوله (انا انزلناه في ليلة القدر) وقوله (انا انزلناه في ليلة مباركة انا كنا منذرين) فان الانزال الذي تتحدث عنه هذه الآيات ليس هو التنزيل التدريجي الذي طال اكثر من عقدين وانما هو الانزال مرة واحدة على سبيل الاجمال.
كما ان فكرة تعدد الانزال بهذه الصورة تفسر لنا ايضاً المرحلتين اللتين اشار اليهما القرآن الكريم في قوله (كتاب احكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير) فان هذا القول يشير الى مرحلتين في وجود القرآن اولاهما احكام الآيات والمرحلة الثانية تفصيلها وهو ينسجم مع فكرة تعدد الانزال فيكون الانزال مرة واحدة على سبيل الاجمال هي مرحلة الاحكام والانزال على سبيل التفصيل تدريجاً هي المرحلة الثانية أي مرحلة التفصيل.
التدرج في التنزيل
استمر التنزيل التدريجي للقرآن الكريم طيلة ثلاث وعشرين سنة وكان القرآن يتعاقب ويتواتر على النبي (ص) حتى توفي وهو في الثالثة والستين من عمره الشريف.
وقد امتاز القرآن عن الكتب السماوية السابقة عليه بانزاله تدريجاً وكان لهذا التدرج في انزاله اثر كبير في تحقيق اهدافه وانجاح دعوة الاسلام وبناء الامة، ويتضح كل ذلك في ان القرآن بتنزيله تدريجاً كان امداداً معنوياً مستمراً للنبي (ص) كما قال اللّه تعالى (وقال الذين كفروا لولا نزل عليه القرآن جملة واحدة كذلك لنثبت به فؤادك ورتلناه ترتيلاً) فان الوحي اذا كان يتجدد في كل حادثة كان اقوى للقلب واشد عناية بالمرسل اليه (ص) ويستلزم ذلك نزول الملك اليه وتجدد العهد به مع تعاقب المحن عليه (ص) ولهذا نجد ان القرآن ينزل مسلياً للنبي (ص) مرة بعد مرة مهوناً عليه الشدائد كلما واجه محنة يخاطبه تارة بالصبر صريحاً فيقول (واصبر على ما يقولون واهجرهم هجراً جميلاً) ويخفف عنه حزنه (ص) كما في قوله (ولا يحزنك قولهم، ان العزة للّه جميعاً) ويذكره بسيرة الانبياء الذين تقدموه من اولي العزم فيقول (فاصبر كما صبر اولو العزم من الرسل) ويخفف عنه احياناً ويعلمه ان الكافرين لا يجرحون شخصه ولا يتهمونه بالكذب لذاته وانما يعاندون الحق بغياً كما هو شأن الجاحدين في كل عصر كما في قوله (قد نعلم انه ليحزنك الذي يقولون فانهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات اللّه يجحدون). فضلا عن ان القرآن ليس كتاباً كسائر الكتب التي تؤلف للتعليم والبحث العلمي وانما هو عملية تغيير الانسان تغييراً شاملاً في عقله وروحه وارادته وهذا العمل لا يمكن ان يوجد مرة واحدة وانما هو عمل تدريجي بطبيعته ولهذا كان من الضروري ان ينزل القرآن الكريم تدريجاً ليحكم عليه البناء وينشئ اساساً بعد أساس ويجتث جذور الجاهلية ورواسبها بأناة وحكمة. وعلى اساس هذه الاناة والحكمة في عملية التغيير والبناء نجد ان الاسلام تدرج في علاج القضايا العميقة بجذورها في نفس الفرد او نفس المجتمع وقاوم بعضها على مراحل حتى استطاع ان يستأصلها ويجتذ جذورها وقصة تحريم الخمر وتدرج القرآن في الاعلان عنها من امثلة ذلك فلو ان القرآن نزل جملة واحدة بكل احكامه ومعطياته الجديدة لنفر الناس منه ولما استطاع ان يحقق الانقلاب العظيم الذي انجزه في التاريخ.