اعداد: صفحة رمضان كريم
في هذه الأيام مِن هذا الشَّهرِ المُباركِ تمر ذِكرى وَفاةِ سيِّدِ قُرَيشٍ ومُؤمِنِها أبي طالب، عمِّ رسولِ اللهِ (ص)، قبل ايامِ مِن وَفاةِ السيِّدة خَديجَة (ع) في العامِ العاشِرِ من البِعثَةِ الشَّريفَةِ وقَبلَ الهِجرَةِ بِثَلاثِ سَنوات، وهوَ العامُ الَّذي سَمَّاهُ الرسولُ (ص) عامَ الحُزن، بِسَبَبِ وَفاةِ هَاتَينِ الشَّخصيَّتَينِ المُؤمِنَتَيْنِ العَزيزَتَيْنِ على قَلبِه.
ومِنَ المَعروفِ أنَّ أبا طالب هوَ الَّذي كَفِلَ النبي (ص) بَعدَ وَفاةِ جَدِّهِ عبدِ المُطِّلِب، فَرَعاهُ في صِغَرِهِ، وكانَت زَوجَتُه فاطِمَة بنتُ أَسَد تَهتَمُّ بالنَّبي (ص) أَفضَلَ مِنَ اهتِمامِها بأبنائِها، حتَّى وَرَدَ أنَّ النبي (ص) كانَ يُصبِحُ كَحيلاً دَهيناً في حين كانَ أبناءُ أبي طالب يُصبِحونَ شُعثاً غُبْرا، وتَذكُرُ المصادِرُ أنَّ أبا طالب كانَ يُقدِّمُ النَّبيَّ على نَفسِهِ وأولادِه لِمَنزِلَته في قلبِه، حتَّى باتَ أنيسَهُ وجليسَهُ الأقربَ إليه، فكان يَصحَبُهُ في حِلِّهِ وتِرحالِهِ خَوفاً عَليه، وحِرصاً مِنهُ على سَلامَتِه. بل وَصَلَ الأمرُ به أنَّهُ تَرَكَ تِجارَةً لَهُ بينَ مَكَّةَ والشَّام خوفاً على النَّبيِّ مِن أن يُصيبَهُ مَكروهٌ أو سوءٌ أثناءَ السَّفَر، ولِذَلِكَ لازَمَهُ في مَكَّةَ مُلازَمَةً مُنقَطِعَةَ النَّظير. وظَلَّ أبو طالب على هذهِ الحالِ حتَّى بَلَغَ ابن أخيه أَشُدَّهُ وقَوِيَ ساعِدَهُ. ولَم يَفقِد الرَّسولُ (ص) عِنايَةَ عمه في شبابِه، حيثُ سَعَى لَهُ في تِجارَةٍ إلى الشَّامِ معَ السيِّدةِ خَديجة (ع)، فَعَرَّفَها إليه، وخَطبَها إليهِ وتَولَّى شُؤونَ زَواجِهِ بِها.
وعند بعثته الشريفة، دَعاهُ النَّبيُّ (ص) إلى الإسلامِ فآمَنَ بِهِ مُنذُ بِدايَةِ الدَّعوَة ولم يصرح بها أمام كفار قريش، وحينَ نَزَلَت الآيةُ الكريمةُ: (وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ) أَخبَرَهُ النَّبيُّ أنَّهُ يُريدُ الجَهرَ بالدَّعوَة، وطَلَبَ مِنهُ أن يجمَعَهُم لَه، فأجابَهُ قائلاً: بأبي أنتَ وأُمِّي يا ابنَ أخي، مُرْ تُطَع، واحكُم أُنَفِّذ إن شاء الله. وكانَ يُردِّد: سَعياً على الرأسِ لا سَعياً على القَدَمِ، الآنَ أُحضِرُهُم يا ابنَ أخي. ولمَّا اجتَمَعوا وتكلَّمَ فيهِم الرسولُ (ص) ودعاهُم إلى الإيمانِ بهِ ونُصرتِه، سكتوا ولم يجيبوهُ بشيء، فخاطبه أبو طالب بكلمات، منها: امضِ لِما أُمِرتَ بِه، فواللهِ لا أزالُ أَحوطُكَ وأَمنَعُك. ومِنَ المَعروفِ أنَّ ابا طالب كان على ديانة ابيه عبدِ المُطَّلِب وهي التَّوحيدِ والإيمان، المعروفة بالحنيفية على مِلَّةِ إبراهيمَ الحَقَّةِ غيرِ المُحَرَّفَة.
وهكذا نَراه قد كَتَمَ إيمانَهُ كَمؤمِنِ آلِ فِرعَون، ليَستَطيعَ تأمين الحِمايَةَ للنبي (ص) مِن مُشرِكي قُرَيشٍ وعُتاتِها، الَّذينَ كانوا يَكيدونَ له (ص) ويُؤذونَهُ وحَرَكَتِهِ في الدَّعوَةِ إلى اللهِ تعالى. لأنَّهُ لَو أَعلَنَ ابو طالب إسلامَهُ لكانَ سَيَفقِدُ تَأثيرَهُ بين أوساطِ مُشرِكي قُريشٍ الَّذينَ كانوا يُوسِّطونَهُ بَينَهُم وَبينَ الرَّسولِ (ص) خلال مُفاوضاتِهِم مَعَه لكونه عَمَّه (ص) وكافِلَهُ مُنذُ صِغَرِهِ.
فمما ترويه الروايات كلام النبي (ص) له: يا عَمُّ، والله لَو وَضَعوا الشَّمسَ في يَميني، والقَمرَ في يَسَاري على أن أَترُكَ هذا الأمرَ حتَّى يُظهرَهُ الله، أو أهلَكَ فيه، ما تركتُه، فرد ابو طالب عليه: اذهَب يا ابنَ أخي، فَقُل ما أَحبَبت، فواللهِ لا أُسلِمُكَ لشيءٍ أَبَداً .وروي أن الرسولَ (ص) كان يُصلِّي وعلي (ع) يأتم به مصليا خلفه، فمَرَّ أبو طالب بِهِ وجَعفَر ابنه مَعَه، فقال له: بُنَيَّ، صِلْ جَناحَ ابنَ عَمِّك فتقدم جعفر للصلاة مع علي (ع) خلف النبي (ص). وانصَرَفَ أبو طالب مَسروراً وهوَ يَقول:
إنَّ علياً وجعفـراً ثِقَتي عِندَ مُلِمِّ الزَّمانِ والكُرَبِ
والله لا أخذُلُ النَّبـيَّ ولا يَخذُلُهُ مِن بَنِيَّ ذو حَسَبِ
لا تَخذُلا وانصُرا ابنَ عمِّكُمَا أخِي لأُمِّي من بينِهِم وأَبي
وكانَ أبو طالب مَع الرسولِ (ص) عبر كُلِّ مَواقفهِ، وأَصعَبِ الأوقاتِ وعِنَدَما حاصَرَت قُريشُ الرَّسولَ (ص) والمُسلِمينَ مَعَهُ في شُعبِ أبي طالب، وقاطَعَتهُم اجتماعيّاً واقتصاديّاً لمدة ثلاث سنوات ومَنَعَت النَّاسَ أن يَبيعوهُم ويُوصِلوا إليهم الطَّعام والشَّراب حتَّى أنَّ النَّبيَّ وأصحابَهُ كانوا يَشِدَّونَ حَجَرَ المَجاعَةِ على بُطونِهِم، وكان ابو طالب يخشى على النبي (ص) من غدر قريش فيغير موضع منامه ويستبدله بولديه علي وجعفر حتى انتهى الحصار الذي اثر على صحته وهو رجل عجوز فلم يمهله طويلا فتوفي بعد الحصار بمدة وجيزة.