نيكولا بوريو..ونظرية الجمال المعاصرة

ثقافة 2018/12/25
...

نصير فليح
الحوار او الجدال حول الحداثة وما بعد الحداثة وما بعد الاخيرة ايضا، مستمر ويتراوح بين الرفض الشديد والحماس الشديد وما بينهما من طيف واسع من الاراء المتنوعة. وأحد محاوره المستمرة هو الجدال حول الثقافة والفن والادب، وبالتالي فلسفة الجمال (الأستطيقا). ولعل القارئ على اطلاع ببعض الحالات الابرز في هذا السياق، مثل كتابات جان ليوتار عن تخطي السرديات الكبرى، او نقد فردريك جيمسن لمابعد الحداثة باعتبارها منطقا ثقافيا للرأسمالية المتأخرة.
 
 
الناقد الفرنسي نيكولا بوريو Nicolas Bourriaud (1965) من النقاد والمنظرين المعنيين بالفن ولا سيما الفن التشكيلي وطرائقه الجديدة في تقديم نفسه، ولكنه يضع رؤيته النقدية على ارضية نظرية تمتد الى ما هو ابعد من ذلك. والعنصر الرئيسي في نقد وفكر بوريو هو ما يسميه الاستطيقا العلائقية relational Aesthetics، اي الجماليات المعتمدة على العلاقة بين العمل الفني والمتلقي. فطبيعة هذه العلاقة تغيرت كثيرا في عصرنا وهو ما يتناوله بوريو لا سيما في نقده وتنظيره لأعمال "التنصيب الفني" او "التركيب الفني"installation، ويعني بوجه عام الاعمال التي لم تعد مجرد لوحة او منحوتة عادية، بل تركيب من عدة عناصر يقدم نفسه بصيغة عمل فني موحد غالبا ما يكون ثلاثي الابعاد ويستخدم تقنيات ومؤثرات بصرية متنوعة. فهذه الصيغة في التيارات الفنية المعاصرة وما بعد الحداثية تجعل طبيعة العلاقة بين العمل الفني والمتلقي معتمدة على "تبادل المعلومات"، مما يجعل العلاقة نفسها، بين المتلقي والعمل الفني، عنصرا جوهريا في الرسالة الجمالية. 
مع ان فكر ونقد بوريو يركز على الاعمال ما بعد الحداثية والتيارات الفنية المعاصرة التي اعقبتها، لا يمكن القول انه من "المناصرين تماما" لثقافة وفن ما بعد الحداثة. والتوصيف الأدق لفكره يتمثل في الحفاظ على مسافة نقدية كافية، تحاول الفرز بين العناصر المكونة لهذه الاتجاهات او التيارات. وهو اذ يقيّم ايجابيا بعض السمات الحداثية او ما بعد الحداثية، فانه يسعى الى عدم وضع هذه العناصر ضمن اي اطار ايديولوجي-ثقافي، لحرصه على البقاء بعيدا عن التوصيفات الجاهزة، وابقاء الافاق مفتوحة لتطورات جديدة، ومن هنا يظهر احد مصطلحاته الرئيسية ايضا، وهو "الحداثة المتغيرة" altermodrnism. ويعني به حالة من تخطي "ما بعد الحداثة" كمنظومة من العناصر المميزة التي تندرج تحت هذا المسمى."فالحداثة المتغيرة" اذن ليست "ايديولوجيا" فنية ولا "مدرسة" او "اتجاها" بالمعنى المتعارف، ولا تطالب الفنان بان يتخذ موقفا بين الحداثة او ما بعدها، بل بالعكس، تدعوه للتخلي عن استقطابات كهذه، وهذا جانب اساسي من فكر بوريو ايضا.
بوريو يحتفي بالكثير من العناصر ما بعد الحداثية، الثقافية او الفنية والجمالية (فضلا عن عناصر حداثية معينة)لكننظرته الاجمالية الى ما بعد الحداثة، باعتبارها منظومة ثقافية، يعبر عنها قوله انها "فلسفة للحِداد"The Philosophy of Mourning. بمعنى يتصل بموقفه من الحضارة والثقافة الحالية التي تهيمن عليها الرأسمالية والتي تندرج السمات الثقافية والفنية لما بعد الحداثة في سياقها.
الارضية النظرية لنقد وفكر بوريو تمد جذورها في مصادر متعددة، لعل من ابرزها لويس التوسير، رولان بارت، جاك دريدا، جان ليوتار، فضلا عن النظريات عن الحداثة وما بعدها، او الدراسات التي باتت تتناول ما اعقب "ما بعد الحداثة" ايضا. كما لا غرابة في انجذاب بوريو الى الافكار المتعلقة بالنصوص التشعبية او الفائقة hypertext(على شاشات الحاسوب والشاشات المماثلة)التي تكوّن ايضا شبكة علاقات مركبة من عناصر نصية متشظية، وتقود المتلقي الى علاقة تفاعلية مع مكوناتها، وهو ما يستدعي تشابهات وتوازيات كثيرة مع مقارباته الجمالية للاعمال الفنية.
رؤية كهذه يمكن ان نجد لها موازيات فكرية لدى عدد من المفكرين البارزين ممن تأثر بهم بوريو، من قبيل جاك دريدا في نظرتهلعالم ما بعد البنيوية، باعتباره "عالمامن العلامات يقدم نفسه للتأويل الفعال". او جيل دلوز وفكرته عن "الترحلُّ"، ذلك ان الفنان لكي يواكب "الحداثة المتغيرة" فانه يتحول الى "مترحل" بعيدا عن اي منظومة ثقافية جمالية محددة قارّة او راسخة، او فكرة رولان بارت عن الكتابة النصية التي باتت تتطلب قارئا مشاركا في صنع المعنى وان الكاتب ليس سوى عنصر من عناصر العملية الكتابية.
لا يقتصر عمل بوريو ونقده الفني وفكره على الفن التشكيلي، بل يتناول جوانب اخرى مثل الموسيقى. فدخول التقنيات المختلفة في تركيب وتقديم الاعمال الموسيقية يجعل من سؤال "الأصالة" او "المؤلف" اكثر تعقيدا بكثير. فادماج المؤثرات الصوتية المختلفة، وتوظيف مقاطع او شذرات من سياقات مختلفة ووضعها في سياق جديد، يعني اننا امام صيغ جديدة للعمل الفني الموسيقي لا يعود مؤلفها محددا بوضوح. وهو ما تتردد اصداؤه في الفن التشكيلي او الفنون الادائية ايضا. 
فواحدة من السمات الرئيسية في فن وادب ما بعد الحداثة هو التشظي، وتخطي الوحدة الداخلية المزعومة اوالمفترضة للعمل الفني، واستخدام عناصر من مجالات او مراحل تاريخية مختلفة جنبا الى جنب. وكل هذا بالطبع لا يغير من طبيعة العلاقة بين المتلقي والعمل الجمالي فقط، بل من جوانب اخرى وثيقة الصلة، مثل سؤال "المؤلف" و"الأصالة"، ودور المتلقي في تشكيل المعنى.