عبد الرضا موات البهادلي
خلافاً للطقس الديني والروحي الذي يوفره فعل الصيام نفسه، مروراً بالمساجد المزدانة بالمصلين خاصة خلال الأيام الأولى من الشهر، وشهود الفجر وما إلى ذلك من فيض عرفاني، تبدو الذاكرة الشعبية والوجدان الجمعي للشعوب الإسلامية مختلفة، وكأنّها تؤكد على فاعلية التغيير وحتميته، حين تحطمت فجأة ساعاتها البيولوجية، تقتل ساعات وتمتلئ ساعات بالوقت، وتنقلب أنماط الغذاء رأساً على عقب، تحضر أنواع، وتختفي أنواع وينتهي الكل إلى احتفاء خاص له جذوره التي تمتد في المكان والزمان، احتفاء يؤكد أننا كشعوب لنا قدرتنا وطاقتنا الخاصة على أن نرتاد مناطق الاحتفاء والبهجة والتغيير الذي يحطم السائد، ويخرجنا من جهامة الاعتيادي، وسأم المكرّس وسكونيّة التقليدي. بمعنى أنّ لرمضان في المخيلة الشعبية مساحة كامنة لم تحظ بدراسات ثقافية ذات عمق ينطلق من هم تحليل الظاهرة الاجتماعية، وينهض بعيداً عن التناول السطحي، الذي غالباً ما تعنيه سطوح الأشياء ولا يكترث لدلالات الظاهرة وايحاءاتها ونتائجها، على نحو ما تمر عليه أعيننا كل عام عندما تستحضر الصحف حكاية (المسحراتي) كظاهرة طافت بصوتها كل بلدان العالم العربي منذ العصر المملوكي، مع اختلاف في تفاصيل صغيرة ربما تكون أدائية واسمية وشكلية ولهجوية فقط.هذا المسحّراتي، بقي يحضر كفلكلور وفي بعض الدول حين تتعالى نغمات (وحوي يا وحوي)، تصاحبها (حلو.. يا حلّو)، واختفى نهائياً في دول أخرى لم تتأسس فيها ثقافة تأصيل الفلكلور، أو هي لا تكترث إلّا للآتي، فضاع (القريقعان، واختفت لعبة (الضاع)، فالأولى في الخليج والمنطقة الشرقية من السعودية، والثانية لعبة في الحجاز. وفي العموم بقي (المسحّراتي) فلكلورا لم يكتسب أي قيمة في إطارها الفني أو الاجتماعي أو داخل الدائرة العلمية البحثية ناهيك عن التوظيف الإبداعي .
وظاهرة المسحّراتي ليست وحدها ضحية غياب تقاليد تحويل مناسبتنا الدينية إلى طقس له علاقة بالوجدان والفرح والإبداع، لتأكيد مساحة البهجة في التعاطي مع الدين فهناك (الحكواتي) الذي كان يعبئ وقتاً من ليل الحجاز وبغداد والقاهرة والشام بالسير الشعبية التي ينثر شخوصها وجمالها في الأزقة والحارات ورمضان زاهٍ بفرح الناس الحقيقي. وفي الحجاز لم تخل الطفولة من وقت رمضاني كان الاطفال يبتكرون ألعاباً في كل المناطق ويصنعون فرحهم وتساليهم التي تنسجم مع النظام الاجتماعي والنسق الحياتي والإرث الحضاري للمنطقة.
اذن لماذا يأتي رمضان الآن ولا يلقي في نهاراته الا أسئلة التثاؤب، في حين تفيض لياليه سهراً بليداً، مضجراً وسط برامج تلفزيونية متكررة عن حزورات مستهلكة وضحكات مصطنعة. فيما تحيله المسلسلات إلى طقس تجرد من معظم معانيه الروحانية ومفرادته الاجتماعية، ونخشى أن يتحول الشهر ذاته إلى فلكلور، يمر علينا بلا ذاكرة، ونحن مستغرقون في التواصل مع روائع الفضائيات بكل مسابقاتها وفوازيرها وخيامها وكوميدياتها الساخرة و"طاش ما طاش"، وعندها يتحقق الطيش حقاً.